النظام القانوني في أي بلد هو السور الواقي والحصن المنيع لحماية المجتمع ورعاية مصالحه، وكلما استطاعت الدولة تطبيق العدالة وبناء منظومة قضائية نزيهة وشفافة ومستقلة لا تخضع لتدخل السلطات، كلما حققت تطوراً لافتاً على صعيد الحقوق وارتقت في مستويات متقدمة من العدالة، وعزّزت نظامها القانوني، وكفلت تحقيق الأهداف السامية التي من شأنها أن ترسخ دعائم الأمن والاستقرار.
فهذه المنظومة تتحرك وفق قواعد غاية في الدقة والتعقيد، وتحيط بها أسباب وشروط شكلية وموضوعية لا يمكن تجاوزها أو اختراقها، وصولاً إلى تحقيق الغايات، فعند وقوع الجريمة تبدأ سلسلة طويلة من الإجراءات التي تنتقل من مرحلة إلى أخرى، بدءاً من الحق في إقامة الدعوى الجزائية والذى يقع ضمن اختصاص النيابة العامة حسب المادة (1، 2، 3) من قانون الإجراءات رقم (3) لسنة (2001)، ثم تفويض مأموري الضبط القضائي في مراحل جمع الاستدلالات كما أوردت المادة (19، 20، 21، 22) من ذات القانون، ثم إحالة المشتبه بهم إلى النيابة العامة للتحقيق معهم، وإيداع لوائح إتهام حال ثبوت بّينة كافية ضد المشتبه بهم، ليصبحوا متهمين بارتكاب جرائم، ليُعرَضوا على المحاكم المختصة التي تنظر في طبيعة المحاضر والملفات وتدقق في كل البيِّنات التي قدّمتها النيابة العامة، وكذلك تنظر فيما يدفع به المحامين أمامها كونهم يمثلون المتهمين أمام القضاء.
فللقاضي أن يكوّن قناعته ويبنى حكمه في ضوء الحدود التي رسمها له المشرّع، وفى ضوء البيّنات التي قُدّمت أمامه، فلا يصح التأثير عليه من العامة، أو من السلطات الأخرى، تحت أي ظرف كان، فاستقلال القاضي في القيام بهذه المهمة الحساسة والدقيقة بعيداّ عن الضغط الأمني والسياسي وحتى الجماهيري هو الضامن لصدور أحكام موضوعية تستند لصحيح القانون وتنسجم مع قواعد ومبادئ العدالة، فقد نصت المادة (205) من قانون الإجراءات رقم (3) لسنة (2001) على أن القاضي لا يحكم بعلمه الشخصي، وأوردت المادة (207) من ذات القانون أنه لا يُبنَى الحكم إلا على الأدلة التي قُدّمت أثناء المحاكة والتي تمت مناقشتها في الجلسة بصورة علنية.
وقد سبقت الشريعة الإسلامية القانون الوضعي في ترسيخ قواعد الحكم واستقلال القضاء، والتحذير من إتباع الهوى في إصدار الأحكام، فلا ينبغي لأحد التدخل في عمل القضاء، واعتبرت أن هذا التدخل ربما يحرِف القضاء عن مقصده، ليصل به إلى الانحراف نحو الهوى والضلال، فقد قال تعالى "فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق"، وقوله تعالى: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى".
فالعدل إذاً هو أساس الحكم والملك، وإلا احتكمت المجتمعات للفوضى وشريعة الغاب، وساد قانون الأقوى وهُدِمت كل جدر الحماية التي رسختها أحكام وقواعد الشريعة، وكذلك الأحكام والقواعد الإجرائية القانونية المنصوص عليها والمعمول بها في فلسطين، ورغم هذه المعايير والمبادئ وجملة الأحكام يكون هناك انتقاد دائم للقضاء بسبب المدد الطويلة التي تمر بها القضايا في إصدار الحكم وفى مرحلة التنفيذ، خصوصاً في ما يتعلق بأحكام الإعدام على خلفية جرائم القتل.
ومن هنا نقول أن أحكام الإعدام من الأحكام السالبة للحياة التي لا يُقبل فيها الخطأ، فإذا ما أزهقت روح شخص وأدركنا بعدها أنه برئ أو أن مساهمته وجرمه لم يكن يرقى لحكم الإعدام، فكيف يمكن تصحيح الخطأ حينها وقد غادر هذا الشخص الحياة الدنيا، فلن يستفيد من تصحيح أو تعويض، لذلك حرص المشرع الفلسطيني وكذلك معظم فقهاء القانون على وضع ضمانات كافية تحيط بهذا الإجراء، وأعطت القاضي حرية تامة وفق قواعد محددة، من شأنها الحفاظ على سلامة الإجراءات وصدور حكماً صحيحاً لا يشوبه العيب.
ففي عقوبة الإعدام يصدر الحكم بالإجماع وذلك بحسب المادة (272) من قانون الإجراءات، نظراً لحساسية وخطورة الحكم، ولا ينفذ الحكم إلا بعد استنفاذه لكل درجات التقاضي ليخرج في صورته النهائية، وهذا لا يعطى مبرراً لمهاجمة القضاء واتهامه بالتقصير أو التسويف والتأخير لأن كل هذه الإجراءات ضمن الضمانات التي تحيط بالحكم.
وخلاصة القول؛ يجب أن تزداد ثقتنا بالقضاء وأن نساهم جميعاً في ترسيخ قواعد العدالة من خلال احترام النظام والقانون وعدم التجرؤ على المساس بمكانة وهيبة القضاء أو السعي للتأثير عليه، وأن ننأى بأنفسنا عن التدخل في عمله واختصاصاته في كل الظروف والأحوال، سواءً كان ذلك من المجتمع أو السلطات الأخرى.