قبل أن أبدأ ببيان تعلق سورة يوسف بأحداث لها تعلق بزماننا، أود أن أوضح جانبًا من القصة من خلال أول آيات نزلت قبلها وهي قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) [يوسف]
القرآن كله أحسن القصص ولا تفاضل بين قصة وأخرى، لكن تصدير الكلام بين يدي قصة يوسف بهذه الآية يشعر بأنها لها تعلق بقصة يوسف عليه السلام، فلماذا قصة يوسف نالت حظ هذا التصدير قبل الحديث عنها.
لأن قصة يوسف في مضمونها تختلف عن باقي القصص القرآني، فالقصص الأخرى تحكي تجربة الأنبياء مع أقوامهم في الدعوة إلى الله وما يترتب عليها، لكن هذه القصة تحكي تجربة الحياة وتصريف القدر، تحكي الآمال التي تلفها الآلام، تحكي تدبير الله لعباده من حيث لا يشعرون، ترشد إلى عطية الله التي تأتي أحيانًا في ثوب بلية، أو تلك النعمة التي تساق فيما ظاهره نقمة، وفي ذات السياق تبرز كيف يمكن أن نشتم رائحة الفرج من عبق البلية والمصيبة في ذات اللحظة
أحسن القصص لأنها تحكي كيف أن الكيد مهما بلغ سواء كان إنسيًا أو شيطانيًا لا يمكن أن يغير المقدور، بل هو ذاته الذي يسوق الإنسان إلى قدره، فكيد الإخوة وكيد الشيطان في سياق القصة لم يغير من تدبير الله ليوسف شيئًا، بل كان الكيد نفسه يدور في دائرة المقدور الذي قدره الله ليوسف في طريق التزكية والتربية نحو تمكين العلم والسلطان..
أحسن القصص لأن المؤمنين يتعلمون منها كيف يفهمون عن الله وكيف يسوق لهم ألطافه من حيث لا يشعرون، فإلقاء صبي في غيابة الجب في وسط بادية موحشة لم يكن بمنأى عن لطف الله حيث عاجله الوحي صبيًا هناك، وتعجل الوحي هنا في غير وقته الطبيعي هو منحة إلهية ليوسف في عبق المحنة يقول الله سبحانه وتعالى (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) [يوسف]
ففي عبق المحنة عاجله الوحي بطمأنة قلبه، وهذا أحسن القصص لأنها تجربة المؤمنين مع الله حيث لا يحرمون في شدائدهم من إشارات وبشارات من لطف الله بهم.
أحسن القصص لأننا نعيش القصة في كل حياتنا لكن بأشكال مختلفة نجد فيها الكيد واللطف نجد فيها تدبير الله لبعض عباده في اللحظات الأخيرة، نجد كيف يسوق الله بعض الناس سوقًا للموعظة التي تكون خيرًا لهم حتى في اللحظات الأخيرة، فهذا الرجل الخباز الذي حكم عليه بالموت لم يحرم في لحظاته الأخيرة من مجالسة نبي ذلك الزمان مدة من الوقت قبل موته، وأثر هذه المجالسة عليه في آجل أمره وهذا أمر شرحته في عدة مقالات.. وهي ذات القصة التي نرى فيها كثير من الناس يساقون لأمر الله وللموعظة من حيث لا يحتسبون.. إنه اللطف الإلهي والرحمة الإلهية المطلقة والتي تفوق كل تصوراتنا.
أحسن القصص لأنها تحكي تجربة صراع البصر والبصيرة في قلوب المؤمنين، فالواقع بإملاءاته الكئيبة وأحداثه الرتيبة يوحي لك باليأس، واستبصار الغيب يوحي لك باشتمام الفرج من ثنايا الألم والمصائب والإملاءات الكئيبة التي توخز صدرك يوميًا دون أن يتغير الواقع أمامك، وهذا يعقوب عليه السلام عندما اشتد البلاء وغابت الرؤية قال إني لأجد ريح يوسف..
أحسن القصص لأنها ترسم لنا مسار التجارب المنفردة التي نعيشها فلا تمكين بدون بلاء وابتلاء، ولا ابتلاء دون لطف، ولا لطف دون تمحيص وشدائد.. وهكذا هي تجربة حياتنا.. فلأن هذه القصة تلامس تجربة حياتنا اليومية بطريقة مباشرة سواء في المنحى الفردي أو الجمعي فهي أحسن القصص.