ما إن يخرج اعتراف إسرائيلي بعدم جدوى الحل العسكري لمواجهة مسألة غزة، حتى يظهر إقرار جديد يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن السياسة الأمنية الإسرائيلية أثبتت فشلها أمام التحدي القائم في غزة، لأن الاحتلال الإسرائيلي سبق أن عاش هذه المشاهد بين عام وآخر، وخلال كل جولة عسكرية، وكلها لم تنجح في وقف المقاومة، وكبح جماحها.
الاعترافات الإسرائيلية بعدم جدوى الحلول العسكرية مع الفلسطينيين عموما، وفي غزة خصوصا، مردها ما يذكره رجال الجيش الذين يعرفون جيدا أن الأمن الإسرائيلي لا يتحصل فقط بالقوة العسكرية، لأنه منذ مارس 2009 صعد نتنياهو إلى الحكم، قتل 213 جنديا ومستوطنا في عمليات فلسطينية مسلحة، وحروب خاضتها إسرائيل على غزة في 2012 و2014 وما بينهما، وأصيب 1444 آخرين، وأطلق الفلسطينيون على المستوطنات تسعة آلاف صاروخا وقذيفة هاون، ونفذوا أكثر من 10 آلاف هجمة مسلحة.
وفي حين أن حكومة اليمين الإسرائيلي أطلقت سراح أكثر من ألف أسير فلسطيني بصفقة التبادل مع حماس في 2011، فقد منحها ذلك دعما وإسنادا، لكن ذات الحكومة لم تنجح بالتوصل لتسوية مع الحركة، وتوفير الأمن لمستوطني غلاف غزة من خلال حياة طبيعية.
يعترف الإسرائيليون أن هذه المعطيات المحزنة هي نتيجة مباشرة للسياسة القائمة على منطق إدارة الصراع، والهروب من التعامل مع الوضع الحاصل، والمقامرة بحياة الجنود والمستوطنين، فإما تحقيق تسوية وتهدئة مع حماس، أو أن قائمة العمليات ستطول وتزيد، من خلال عمليات الاختطاف والدعس والقتل.
وهكذا فإن أمن الإسرائيليين بات رهينة بأيدي المسلحين الفلسطينيين، ومن يرسلهم، ممن لا يتوقفون عن تنفيذ المزيد منها، وأمام هذه المعطيات المتشائمة فإن لدى الاحتلال الإسرائيلي للتعامل مع غزة خيارين: عملية عسكرية، أو سياسة دبلوماسية، والمنظرون للعمليات العسكرية يدفعون للدخول بقوة، والسيطرة على القطاع، ومطاردة المسلحين داخل الأنفاق، وهدم البنى التحتية، واغتيال واعتقال زعماء حماس.
مع أن سيناريو الإطاحة بحماس من خلال القوة الفتاكة يعيدنا لذات السيناريو الذي عاشته إسرائيل قبل 2005 عند الانسحاب من غزة، ومكثت فيها قرابة أربعين عاما، فماذا حققت فيها بين 2000-2005، لقد قتل في القطاع 125 إسرائيليا جنديا ومستوطنا، بمعدل 25 قتيلا في العام.
لقد تجلى الاعتراف الإسرائيلي بالقول أن إسرائيل في غزة تلقت درسا شبيها بدرس الولايات المتحدة في فيتنام، وروسيا في أفغانستان، وفرنسا في الجزائر، وهو ما يطرح السؤال: لماذا سيحقق اجتياح غزة اليوم 2019 ما لم يحققه بين 2000-2005، وهو ما يؤكد أن اجتياح غزة لن يستأصل حماس منها، وإنما سيرفع معدلات القتلى والجرحى في الجانبين فقط.