فلسطين أون لاين

مواطنون توفوا "تعذيبًا" في سجون السلطة.. قضايا أغلقت خارج المحاكم

...
تحقيق/ يحيى اليعقوبي:

تقرير طبي رسمي: جسد الشيخ البرغوثي خال من أي كدمات وصور تظهر تعرضه لتعذيب شديد

البرغوثي يعمل إمام مسجد وأدعى التقرير أنه توفي نتيجة التدخين وابنته: والدي غير مدخن

محمود الحملاوي اعتقله "الوقائي" لأجل "هاتف" وشقيقه عماد: مورس معه "تعذيبا وحشيا"

قضية قتل القيادي بفتح "حلاوة" انتهت بنعيه كشهيد

الحق: لم يحاسب أي شخص على ارتكابه لجريمة التعذيب ولم يتم انصاف الضحايا

رئيس مجلس القضاء الأسبق: قضايا القتل إثر التعذيب لم تطرح في المحاكم الفلسطينية

المحامي كراجة: وكلاء النيابة والقضاء يرفضون تسجيل التعذيب وآثاره بضبوطات المحكمة

ويكيليكس: السلطة اعترفت بموت هيثم عمرو نتيجة التعذيب

خبير قانوني: الوفاة إثر التعذيب إعدام خارج نطاق العدالة

لم تجد السلطة أسهل من الادعاء بالإصابة بـ"جلطة" نتيجة التدخين؛ لإغلاق ملف وفاة الشيخ مجد البرغوثي من سكان قرية (كوبر) قضاء رام الله المحتلة على إثر ما تؤكد ابنته أنه "تعذيب شديد" تعرض له في 22 شباط/ فبراير 2008 في سجن مخابراتها برام الله، رغم كونه ليس مدخنًا.

وكان البرغوثي عمل إمامًا لمسجد القرية على مدار 22 عامًا.

وتظهر صور لجثة البرغوثي حصلت عليها صحيفة "فلسطين" أثار عنف على جميع أنحاء جسده، وثقوب على قدميه نتيجة تعرضه لآلات حادة، وكدمات كبيرة في الفخذ، والأقدام والظهر.

وتقول ابنته إيمان البرغوثي: "إن مجموعة من المسلحين اقتحموا منزلنا وعرفوا عن أنفسهم بأنهم من مخابرات السلطة، واعتقلوه لمدة تسعة أيام وبعد تدهور حالته الصحية على إثر التعذيب، حول لمستشفى خالد برام الله باسم مستعار، وأعلن عن وفاته بدعوى جلطة دماغية كما جاء بتقرير معهد التشريح بأبو ديس نتيجة التدخين وفق تقرير التشريح".

وتضيف البرغوثي لصحيفة "فلسطين": "تعرض أبي للشبح وتعذيب وحشي، ولم يشتكِ من أي مرض قبل اعتقاله، حتى أن السلطة ذهبت وبحثت عن أي ملف له في كل المستشفيات يدل على أي مرض كي يكون سببًا للوفاة ولكنها لم تجد (...) وكانت المفاجأة والسخافة أنهم قالوا بأنها نتيجة التدخين رغم أن والدي إمام مسجد وشيخ معروف وهو غير مدخن ويحرم التدخين في خطبه"، مبينة أن والدها تعرض لتعذيب وحشي بآلات حادة، كان مشبوحًا عاريًا في درجة حرارة منخفضة".

ويعد التعذيب وإيذاء وقتل الأشخاص جرائم يعاقب عليها قانون العقوبات الفلسطيني، ويجرمها وفقًا لنصوص مواده، وحظر القانون الأساسي الفلسطيني التعذيب، واعتبر كل قول أو اعتراف نتيجة التعذيب أو الإكراه باطلًا، وفق المادة (13).

ونصت المادة رقم (5) للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بأنه لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية، وحظرت اتفاقية مناهضة التعذيب التي انضمت اليها السلطة، في المادة رقم (2) التعذيب، ونصت على أن تتخذ كل دولة وطرق إجراءات تشريعية أو إدارية أو قضائية لمنع أعمال التعذيب.

ويظهر تقرير للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان نشر عام 2008، البرغوثي وهو مقيد اليدين، حيث لوحظ وجود سحجة تقع على الساعد الأيمن والأيسر، وأن معتقلين أفادوا بأنه عاش ظروف تحقيق واعتقال قاسية، وتعرض للشبح والتعذيب والضرب والمعاملة القاسية، كما ترك لينام دون غطاء، رغم موجة البرد الشديد، وإصرار المحققين على أخذ اعتراف منه رغم تدهور حالته، وأظهر التقرير أن البرغوثي أدخل للمشفى باسم أيمن دون ذكر اسمه رباعي، ولم تقُم المخابرات بتبليغ أهل المتوفى بوفاته، وتشير الدلائل إلى وجود آثار تعذيب.

وحصلت صحيفة "فلسطين" على وثائق رسمية صادرة لتقرير طبي قضائي، يدعي أن وفاة البرغوثي كانت طبيعية نتيجة اعتلال في عضلة القلب، وأن العنق والصدر، والقلب، والبطن والحوض، خالٍ من أي آثار كدمات، رغم الصور التي أظهرت آثار التعذيب.

ضحايا آخرون

محمود الحملاوي (32 عامًا) شاب من قطاع غزة يعيش بالضفة منذ أربع سنوات بهدف البحث عن عمل، انقطعت أخباره عن عائلته في 14 مارس/ آذار 2019، خلالها استطاع الاتصال بعائلته وإطلاق نداء استغاثة، شهود عيان شاهدوا خمسة أشخاص يضربونه بشدة ويعتقلونه بملابسه الداخلية، حسبما يفيد شقيقه عماد.

يقول شقيقه لصحيفة "فلسطين": "في 27 مارس اتصل بنا مدير السجن في بيتونيا، ليخبرنا أن أخي توفي بالسجن نتيجة تدهور حالته الصحية، وعندما قلت له: إن أخي لا يشتكي من أمراض، فقال إنه وصلنا بهذه الحالة من وقائي رام الله".

ويتهم "الوقائي" بتعريض شقيقه المتوفى "لتعذيب شديد"، قائلًا: إنه كان "يُضرب على رأسه، وبطنه، ويتقيأ دما ويغيب عن الوعي، وبقي عدة أيام بملابس داخلية رغم برودة الأجواء"، مشيرًا إلى أن التقارير الطبية الأولية توضح أن سبب الوفاة هو تعرضه لنزيف داخلي بالرئتين نتيجة الضرب الشديد عليها.

صورة الجيب الذي اعتقل الشاب محمود الحملاوي

أحمد حلاوة المعروف بـ"أبو العز" هو قيادي كبير في كتائب شهداء الأقصى التابعة لفتح ويحمل رتبة عقيد في الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، اعتقلته قوة مشتركة من أجهزة أمن الأخيرة في 23 آب/ أغسطس 2016 بعد مداهمة أحد المنازل بمنطقة نابلس، واقتادته إلى سجن الجنيد.

وآنذاك قال الناطق الرسمي باسم المؤسسة الأمنية في الضفة، عدنان الضميري في تصريح صحفي: إن قوات الأمن اعتقلت المواطن أحمد حلاوة "أبو العز"، ونقلته إلى سجن الجنيد في نابلس، مدعيًا أن الأخير "بدأ بالصراخ وتوجيه الشتائم ما أدى إلى مهاجمته وضربه من قبل الجنود وحاول الضباط منعهم وفارق الحياة"؛ على حد قوله.

لكن عائلة حلاوة طالبت حينها في بيان لها "بمحاسبة عدنان الضميري الناطق باسم الأجهزة الأمنية، ومطالبته بالاعتذار لعائلة حلاوة لما بدا منه من تصريحات غير لائقة بحقها". كما طالبت بإقالة محافظ نابلس آنذاك أكرم الرجوب، الذي كان قد اتهم حلاوة بأنه العقل المدبر لإطلاق النار على عناصر الأجهزة الأمنية في 18 أغسطس/آب 2016.

وفي الرابع من أغسطس 2009 أعلنت مستشفى المدينة الطبية في العاصمة الأردنية عمان عن وفاة المواطن الفلسطيني كمال أبو طعمية (44 عامًا) من مخيم الفوار والسبب جلطة دماغية حادة وفق تقرير المشفى.

لكن عائلته اتهمت حينها جهاز الأمن الوقائي بقتل "أبو طعيمة" أحد قادتها، وقالت إنه تعرض للشبح 37 يومًا وبشكل متواصل، وللتعذيب في سجون السلطة قبل أن يطلق سراحه للعلاج.

وكان أبو طعيمة اعتقل لدى "وقائي السلطة" في الخليل في 15 سبتمبر 2008، وأفرج عنه في الثالث من يونيو 2009 بسبب حالته الصحية المتدهورة قبل إعادة اعتقاله.

وفي 10 أغسطس 2009 توفي المواطن فادي حمادنة (28 عامًا) في سجن الجنيد التابع للسلطة في مدينة نابلس نتيجة التعذيب -بحسب عائلته- لكن أجهزة أمن السلطة ادعت حينها: إنه عثر على حمادنة مشنوقًا داخل زنزانته.

لكن عائلة حمادنة قالت: إن جهاز مخابرات السلطة مارس "التعذيب الوحشي" بحق ابنها، بعد اعتقاله في 15 يونيو 2009 على خلفية سياسية.

وثيقة سرية

وبذات الطريقة توفي الممرض هيثم عبد الله عمرو (33 عامًا) في سجن مخابرات الخليل، في 15 يونيو 2009، وأظهرت وثيقة سرية كشف عنها موقع "ويكليكس" في سبتمبر/ أيلول 2011، بين القنصلية الأمريكية ومخابرات السلطة، اعترافًا صريحًا بأن عمرو من بلدة دورا قضاء الخليل توفي تحت تعذيب سجانيه وليس انتحارًا كما ادعت السلطة في ذلك الوقت.

وحسب الوثيقة التي تم تبادلها بعد ثلاثة أيام من وفاة عمرو، فإن مسؤولين أمنيين كبار في أجهزة السلطة اعترفوا سنة 2009 بأنه توفي نتيجة التعذيب في سجون السلطة بشكل واضح.

ونقلت الوثيقة عن مسؤولين كبار في السلطة أن الرواية التي أشيعت كانت "خاطئة"، والتي مفادها أنه حاول الهروب من خلال نافذة الطابق الثاني ووقع ومات، وأكدت أن عائلته وتقارير حقوق الإنسان ولجنة تحقيق أثبتت أنه توفي نتيجة التعذيب وسوء المعاملة، ووجد على جسد عمرو علامات صدمات كهربائية وحرق بأعقاب سجائر.

المستشار القانوني لمؤسسة الحق د. عصام عابدين يقول: إن "هناك تعذيبا جديا مورس بالضفة، وننظر بخطورة لذلك، فلم يحاسب أي شخص على ارتكابه لجريمة التعذيب، فإذا لم يكن هناك محاسبة يعني أنه لا يوجد إنصاف للضحايا".

ويبين عابدين لصحيفة "فلسطين" أن السلطة انضمت لاتفاقية مناهضة التعذيب وتنص على أن التشريعات والقوانين والسياسات التي تمارسها الدولة المنضمة يجب أن تنسجم مع الاتفاقية، مبينا أن التعذيب بحق المعتقلين حسب قانون العقوبات الأردني لعام 1960 المطبق بالضفة، يعتبر جنحة جنائية تصل العقوبة فيها إلى ثلاث سنوات، ولكن لم يحاسب أحد ولم يسجن أحد، ولا يوجد تحقيقات جدية بقضايا الوفاة التي حدثت، مشيرا إلى أن المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بن سودا تدرس فتح تحقيق حالات التعذيب في الأراضي الفلسطينية.

من جهته يقول الخبير القانون عماد صلاح الدين: إن "مؤسسات حقوق الإنسان تتابع وتوثق حالات الوفاة، ولا تفضح الانتهاكات التي جرت"، مشددا على ضرورة تفعيل دورها في المجتمع وإظهار سبب الوفاة وحالات التعذيب ومحاسبة الفاعلين.

ويوضح صلاح الدين لصحيفة "فلسطين" أن التعذيب داخل سجون السلطة يحدث خارج إطار القانون والعدالة، دون اللجوء للقضاء، وتسمى الوفاة على إثر التعذيب إعداما خارج نطاق القضاء، يؤثر في السلم الأهلي والمجتمع، حتى لو كان المسجون معتديا، فالقضاء والقوانين الفلسطينية والدولية تنص على ضرورة إجراء محاكمات عادلة.

وحسب رئيس مجلس القضاء الأعلى الأسبق في الضفة الغربية سامي صرصور فإن مدة التوقيف القانونية لجهاز الشرطة هي 24 ساعة، وللنيابة 48 ساعة، وهناك في القانون ما يجيز تمديد التوقيف للنيابة، لكن الذي يحصل هو اساءة استعمال النص القانوني في التمديد، بالادعاء أن التحقيق لم ينتهِ.

وبين صرصور لصحيفة "فلسطين" أن جرائم التعذيب على خلفية حرية التعبير لا تسقط للتقادم في المحاكم المحلية والدولية، مشيرًا إلى أن قضايا القتل على إثر التعذيب لم تطرح في المحاكم الفلسطينية.

من جانبه يقول المحامي الاختصاصي في الدفاع عن قضايا المعتقلين أمام المحاكم، مهند كراجة: إن "ما يُلاحظ هو عدم معاقبة الأشخاص الذين يقومون بالتعذيب، مثل قضية حلاوة، والبرغوثي، في الغالب يتم حلها خارج إطار القانون، فاعتبر حلاوة شهيدا وانتهت القضية، ولم تنشر أي تفاصيل للتحقيقات.

ويكمل كراجة حديثه لصحيفة "فلسطين" بأن أكثر مشكلة تواجه الحقوقيين هي رفض وكلاء النيابة والقضاء تسجيل التعذيب وآثاره في ضبوطات المحكمة وهذا مخالف لضمانة محاكمة العادلة.