فلسطين أون لاين

حكاية جراح أشفق على نفسه

عدنان البرش في كواليس المستشفيات.. وقصة صورة "استراحة طبيب"

...
عاش البرش تجربة ثلاث حروب شنها الاحتلال على غزة
غزة/ يحيى اليعقوبي:
"أتمنى الخروج مع عائلتي يوم الجمعة منذ انطلاق مسيرات العودة لكن واجبي يمنعني"
"الأحداث صنعت أطباء نفتخر بهم.. وصدرنا أوراقًا بحثية للعالم"
"عندما كنت في العمليات اتصلت زوجتي وطائرات الاستطلاع تقصف بيت جيراننا.. فماذا أفعل؟!"



دماء تكسو الرداء الطبي الخاص بالعمليات الجراحية، طبيب يأخذ استراحة "مقاتل" وغفوة نوم قصيرة في غرفة العمليات جالسًا على كرسي يستند إلى الحائط بعد خوضه معركة من نوع مختلف أجرى خلالها عشرات العمليات الجراحية لإنقاذ أرواح المصابين قبل أن تلفظ أجسادهم أنفاسها الأخيرة.. لم يكن هذا إلا مشهد صورة طبيب الغزي عدنان البرش التي حظيت بانتشار وتفاعل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن ما أخفته الصورة هي حياة طبيب نذر نفسه لخدمة أبناء شعبه، عاش محطات ومواقف كان فيها بين تناقضات الحياة بغزة، بكى وتألم لكنه واصل العلاج "فالواجب الوطني يحتم علي تقديم الوقت والجهد لإنقاذ أرواح الناس".

صحيفة "فلسطين" حاورت صاحب الصورة المنتشرة، ودخلت إلى تفاصيل حياته العملية والاجتماعية، وتوقفت عند محطات مختلفة لا يعرفها الناس عن حياة الأطباء، وعند مواقف لا توثقها عدسات الكاميرات، فعند غرف العمليات لا يسمح بدخول أحد غير الأطباء.

صاحب الصورة هو الطبيب عدنان أحمد البرش (44 عامًا)، من مواليد مدينة جباليا شمال قطاع غزة، استشاري ورئيس قسم العظام في مجمع الشفاء الطبي، حاصل على شهادة الدكتوراة في جراحة العظام والمفاصل، والبورد الأردني والبورد الفلسطيني كذلك في جراحة العظام والمفاصل، والزمالة البريطانية في جراحة الكسور المعقدة بلندن، وماجستير علوم سياسية من جامعة الأزهر، متزوج ولديه خمسة من الأبناء.

قصة الصورة

لم تكن قصة تلك الصورة جديدة كما روج لها على مواقع التواصل، بل تعود إلى أحدث 14 مايو/ أيار 2018، بعدما قررت الهيئة الوطنية لمسيرات العودة تنظيم "مليونية" في مخيمات العودة الخمسة قرب السياج الفاصل بين قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 48، أعلنت وزارة الصحة حالة "الطوارئ القصوى".

"بدأنا باستقبال الحالات الساعة التاسعة صباحًا، زادت مع مرور الوقت في ذلك اليوم الذي استشهد فيه العشرات، وزعنا وقتنا (الأطباء)، وكنا نتنقل بين الغرفة والأخرى بعد انتهاء كل حالة وكنت في غرف العمليات (...) لم يكن هناك فرصة لشرب كأس من القهوة، ولا حتى تناول طعام الغداء، لأن همنا أبناء شعبنا، فكانت الجروح خطيرة، لم نرَ مثلها من قبل خلال الحروب السابقة"، قالها بنظرة شاردة متذكرًا ذلك اليوم الذي نقلت فيه الإدارة الأمريكية سفارة بلادها من "تل أبيب" إلى مدينة القدس المحتلة.

الصورة التي تداولها رواد مواقع التواصل الاجتماعي للطبيب البرش التقطت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. يتحدث عن كواليس هذه الليلة: "كنا في نهاية الحالات المصابة المحتاجة لعمليات؛ طلبت من زميلي إكمال إجراء عملية إحدى الحالات، جلست على الكرسي بجانب طاولة العمليات؛ أخذتني غفوة نوم، وكانت الدماء تملأ الملابس الطبية، التقط أحد الأطباء صورة لي، وعندما أيقظوني استغربت كيف أنني نمت؟ وعاتبتهم أنهم تركوني نائمًا لعدة دقائق".

أراد أحد الأطباء حينها نشرها، لكن البرش رفض لـ"شكلها المؤلم"، واحتفظ بها في هاتفه، وفي صباح اليوم التالي تحدث معه صديق له وهو طبيب أطفال ومصور ومحكم دولي بالتصوير؛ يعيش في الكويت يدعى أحمد ثابت ومختص بالتصوير المعماري، بعدما سأله عن الوضع في غزة، أرسل البرش صورته بالدماء، لكن ثابت نشر الصورة في ذكرى يوم الأرض في 30 مارس/ آذار الماضي، الذي شهد مليونية جديدة لمسيرات العودة.

وقد أراد ثابت الانتقال لتصوير حياة الأطباء حتى يتعرف الناس إليهم، وحظيت الصورة التي نشرها بانتشار واسع على مواقع التواصل الاجتماعي.

يعترف الطبيب البرش بابتسامة تخفي ألمًا عاشه يومها: "حينما انتشرت الصورة تأملت فيها من جديد؛ فشفقت على نفسي". تلك الدماء التي طبعت على ردائه بعد استقبال قسمه 85 حالة مصابة برصاص جيش الاحتلال، 28 منها أجرى لها علميات بنفسه.

"كلها كانت خطرة، لأننا نتعامل مع أطراف علوية وسفلية، معظم تلك الإصابات تخطت تصنيفات طب العظام لحالات البتر، ولو كانت بمستشفيات أوروبية لتعرضت 80% للبتر، لكننا ورغم وجود أكثر من خمسة آلاف إصابة، لم تتجاوز 150 حالة بتر، وهناك مصابون نصبر على علاجهم لعام وثلاثة ولا نقوم بالبتر إلا إذا كان الطرف لا يمكن إنقاذه"، يقول عن طبيعة الإصابات.

يريد الاحتلال الإسرائيلي، كما يقول البرش، خلق جيل من المعاقين لكن الأطباء "أدركوا الخطورة"، بأن الرصاص المتفجر الذي يطلقه على المصابين يسبب تهتكًا شديدًا في العظام والشرايين وقطع في الأوردة. يضع يده على قميصه الطبي بعدما رد على اتصالات متكررة على هاتفه الذي لم يتوقف: "اليوم سنحت فرصة أن تلتقط الكاميرا صورة لي، ولو جالت على كل الأقسام بالمستشفيات ستجد أن كل الأطباء عدنان البرش، أو من يبذل جهدًا أكبر مني بعضهم تقطع رواتبهم والبعض الآخر يتقاضى 40%".

في زحمة الانشغالات ماذا يتمنى هذا الطبيب؟ يرد على سؤالنا بعدما تنهيدة عميقة خرجت من داخله: "نفسي أطلع أطش مع أولادي يوم الجمعة منذ انطلاق مسيرات العودة"، لكنه "واجب الجهد والوقت" الذي يحتم عليه البقاء في حالة استعداد دائمة.

ماذا حدث للطفل "المقوسي"؟

ربما محت الأيام بعض تفاصيل ذلك اليوم، لكن ثمة موقف بقي عالقًا في ذاكرة الطبيب البرش، إذ إنه في خضم الإصابات جاء طفل مصاب من عائلة المقوسي لا يتجاوز عمره 10 أعوام، وكانت إصابته خطرة بعظم "الفخذ"، نتج عنها تهتكًا للعظام لا يقل عن 10 سنتميترات، والتهابات في عظام القدمين لكون الرصاص المستخدم ملوثًا.

"ظلت حالته تتفاقم ويتراجع صحيًّا، وفشلت كل محاولات إخراجه للعلاج في الخارج، نتيجة رفض الاحتلال السماح بسفره (..) فتعاملنا معه وتماثل للشفاء والآن يستكمل العلاج في مصر".

هذه حياة طبيب نذر نفسه لخدمة أبناء شعبه، قد يقصر في تأدية مناسباته الاجتماعية، يقول وبدى عليه الارتياح "ما يعينني هو تفهم أهلي وزوجتي، فأجد الراحة النفسية في عملي، وأحاول سرقة الوقت لتعويضهم عن غيابي".

حتى سرقة الوقت قد لا تنفع في حياة الطبيب، ففي إحدى المرات اصطحب البرش زوجته وأبناءه إلى أحد المطاعم لتناول طعام العشاء، وما إن جاء العامل بالطعام ليضعه على طاولة الأسرة وتعيش ليلة مسائية هادئة، أفسد اتصال من المشفى هذا الهدوء، والسبب "حالة عاجلة".

يبتسم ضاحكًا: "كنت خجولًا حينها أمام أسرتي"، لكن زوجته بعدما شاهدت الموقف قالت للعامل قبل أن يضعه على الطاولة: "لو سمحت حطه ديلفري"، عادت العائلة للبيت وذهب الطبيب مسرعًا للمشفى. يضيف: "الطبيب جندي في حالة استعداد في ميدان قاسٍ".

عاش البرش تجربة ثلاث حروب شنها الاحتلال على غزة، لا يحب أن يتذكرها لا يخفي السبب: "كنا نرى الحروب على حقيقتها؛ لأن الناس كانت تلجأ للأماكن الآمنة، ونحن كنا نتواجد بالأماكن التي يأتيها المصابون"، من عدوان الاحتلال في عام 2014م، يحتفظ ببعض المشاهد التي لا تزال يتخيلها وكأنه يعيش تفاصيلها من جديد.

سبعة شهداء وبكاء طبيب

ولا ينسى البرش أحد كبار الأطباء حينما توارى عن الأنظار خلف درج المشفى يبكي بحرقة بعدما استقبل سبعة أطفال شهداء قصفتهم طائرة إسرائيلية في العدوان على غزة صيف 2014 "فالطبيب له مشاعر وأحاسيس كما يشعر الناس وقد يكون الشعور أعظم لما يعرفه من خبايا أمور الإصابات".

في أحد أيام العدوان أيضًا كانت الأحداث متسارعة والقصف في كل مكان، واكتظ المشفى بالمصابين والشهداء، الطبيب البرش يجري عملية جراحية عاجلة، في غمرة كل هذا اتصلت به زوجته وبنبرة خائفة أخبرته أن طائرات الاحتلال من دون طيار أطلقت صاروخ على منزل جيرانهم.

ويضيف "كان الوضع صعبًا كوني أعالج حياة مصاب حالته خطرة، وعائلتي بانتظار سقوط صاروخ من الطائرات الحربية قد يودي بحياتهم، كنت على مدار 40 دقيقة أجري العملية الجراحية وأوجه زوجتي بفتح النوافذ، ووضع الأطفال في مكان أمن، وإشغالهم عن القصف".

"بدنا نبعتلك إسعاف يجيبك على المشفى ولكن حياخدك على مستشفى كمال عدوان بالطريق"، كان الاتصال موجهًا للبرش خلال العدوان، وبعدما ذهب مع الإسعاف لذلك المشفى أخبره أحد الأطباء أنه يوجد شهيد من عائلة البرش، ذهبت لثلاجات الموتى فوجدته ابن عمي مؤمن".

يختم حديثه: "الأحداث صنعت أطباء وطاقمًا نفخر به، صدرنا خبرتنا لمعظم الدول، وكتبنا أوراقًا علمية نشرت لأول مرة على مستوى العالم، منها بحث علمي حول أداء قسم العظام إبان حرب 2014، ونشر بمؤتمرات علمية دولية".