الزيارة الأخيرة التي قام بها الدكتور حنا ناصر رئيس لجنة الانتخابات المركزية لغزة بتكليف من رئيس السلطة محمود عباس لإجراء انتخابات تشريعية لأن المجلس التشريعي فقد شرعيته وغاب كثيرون من اعضائه، والتي ربما تكون نقطة تحول نحو إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة التي فقدنا الأمل في إمكانية تحقيقها نتيجة فقدان الثقة بين طرفين فتح وحماس والتمسك بمواقف متشددة لا تسمح بأي اختراق للجمود القائم في ملف الانقسام، لكن الأمل لا يزال معقودا على النوايا لتحقيق المصالحة، لكن صدر مؤخرا عن حركة حماس بانها مستعدة للذهاب فورًا لانتخابات تشريعية ورئاسية وتأجيل انتخابات المجلس الوطني إلى وقت لاحق بعد أن كانت تصر على إجراء الانتخابات للمجلس الوطني والمجلس التشريعي والرئاسة في آن واحد، لهو تغير جدي في مواقفها. وهذا الموقف الجديد من حماس يقابله حتى الآن موقف من فتح بالاستعداد لإجراء انتخابات تشريعية فقط وتأجيل الرئاسية والمجلس الوطني إلى وقت لاحق.
أما حركة فتح فتصر على إجراء انتخابات تشريعية فقط ورفض إجراء الانتخابات الرئاسية في الوقت الحاضر، وما المانع ان تجرى انتخابات شاملة طالما أن حماس قبلت التنازل عن مطالبتها بإجراء انتخابات المجلس الوطني مع التشريعي بعد أن كانت تربط بينهما منذ فترة طويلة؟! فهذا التنازل من حماس هو خطوة وبادرة إيجابية تتيح ولو نظريًا فرصة حقيقية للبدء في مسيرة إنهاء الانقسام وهو المطلوب حاليا، الآن الهدف من الانتخابات أي كان شكلها ونتائجها فهي المخرج الوحيد من المأزق الفلسطيني الداخلي، لأن الهدف من الانتخابات اي انتخابات هو إظهار الطابع الراقي واحترام رأي الآخر وتعبر عن الانتظام والحفاظ على النظام العام والهدوء الذي يوفر الأجواء لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، كما تتطلب توفير آلية تتيح للناخب ممارسة حقه في الطعن بالانتخابات وفق الأسباب والحالات التي يحددها القانون، فيبقى السؤال العريض: من هي الجهة التي ستحافظ على النظام العام، ومن هي الجهة التي ستمارس مهمة القضاء للبت في الطعون الانتخابية؟! وحتى نكون واقعيين الحقيقة تقول إن الشرطة والأمن في قطاع غزة هي في يد حماس بالمطلق لا شريك لها ومن المؤكد أن هذه الشرطة والأجهزة الأمنية منحازة ولو عاطفيًا إلى حماس وبالتالي فإن سيطرتها وإشرافها المطلق على الانتخابات سيجعل هناك شبهة كبيرة جدًا في عدم سلامة الانتخابات نتيجة لشبهة تدخل الشرطة والأمن لصالح حماس، والمشهد نفسه في الضفة.
والأمر الآخر هو أن قانون الانتخابات حدد مرجعية قضائية وآلية وإجراءات أمام المواطن للجوء إلى القضاء للطعن في هذه الانتخابات. والمعلوم هو أن اثني عشر عامًا من الانقسام قد أسفرت عن تبلور جهاز قضائي في غزة مواز للجهاز القضائي في الضفة وليس جزءًا منه لأن السلطة لا تعترف به ولا تقبل بتحكيمه، ولا أخفيكم سرًا لا يجوز بالمطلق التعامل في مثل هذه الحالات بقضاءين متفصلين في انتخابات واحدة لشعب واحد لسلطة واحدة، وفضلا عن أنه من مخلفات الانقسام الذي نرفضه ونطالب بإجراء الانتخابات من أجل انهائه والتخلص منه، إذن من هي الجهة الأمنية والشرطية التي ممكن أن تشرف على الانتخابات في شطري الوطن ومن هي الجهة القضائية التي ستكون لها صلاحية البت في الطعون الانتخابية دون أن يكون هناك أي شك في شرعيتها أو نزاهتها. وهل يمكن أن تُجرى الانتخابات والاعتقال السياسي على اشده لدى الطرفين؟!
لا بدّ من وضع النقاط على الحروف بالنسبة لملفي الأمن والقضاء، وهذا بطبيعة الحال يتطلبان الاتفاق أولًا على من سيقوم بحماية صناديق الاقتراع وسلامة الناخبين ومنع أية فوضى في الشارع أو في محيط صناديق الاقتراع وحفظ النظام العام لكي لا يتم المساس بشرعية الانتخابات ونزاهتها. بينما يتطلب الأمر الثاني تحديد الجهة القضائية التي ستتولى صلاحية النظر في الطعون الانتخابية دون أن تكون تابعة أو منحازة لأحد من طرفي الانقسام، وجرت العادة في كل الانتخابات الفلسطينية بمشاركة واشراف جهات دولية على نزاهتها، وهذا ليس خطأ أو محرم على الإطلاق نظرًا لوضعنا الفلسطيني السياسي والجغرافي المنفصلين بسبب الاحتلال والانقسام.
إن الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية ستخرجنا من المأزق الحالي المدمر ودوامة الانقسام الجارف والذي يزداد تعمقا، في كل مناسبة كمحاولة اغتيال أبو ماهر حلس، وقبلها الاعتداء على موكب رئيس الوزراء لدى زيارته غزة.. إلخ من المصائب التي تواجهنا في كل لحظة، ولعل كلام نتنياهو الاخير عن استراتيجيته التي يفتخر بها بتعميق الانقسام والانفصال بين الضفة وغزة، وما تطرحه إدارة الرئيس ترامب بما يسمى بصفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية وانهاء كل الحقوق المقررة للشعب الفلسطيني على رأسها القدس واللاجئين، ونحن لا زلنا تتشبث للأسف بالانقسام والكراهية الحقد وعدم الثقة بالآخر، مما يجعلنا تتحلل من الوحدة والعمل الوطني المشترك.
أعجبني مقال للزميل د.ناجي شراب بعنوان (إسرائيل) تفرقنا ونحن نوحدها؛ نجحت (إسرائيل) أن تعميق الفرقة والانفصال بين أجزاء الجسد الفلسطيني الواحد. نعم (إسرائيل) نجحت في سياسة فرق تسد. عمقت من بذور الخلاف، وظفت الجغرافيا السياسية بفصل غزة عن الضفة الغربية، نجحت في خلق سلطتين وحكومتين متصارعتين متناقضتين كل منها تحارب الأخرى. ولم تقتصر مظاهر النجاح على خلق بنية سياسية غير تصالحية، بل ما نراه ونسمعه من خطاب سياسي وإعلامي غير مسبوق وغريب ودخيل في مفرداته يعمق الكراهية والحقد والرفض والتخوين والإنكار، وتبادل التهم، والتمسك بقاعدة انا الوطني وأنت الخائن، وسيادة مبدأ نحن وهم.
ان مرحلة إنهاء القضية الفلسطينية وتفكيكها ليس بسبب ما تريده (إسرائيل) وصفقة القرن، بل لأن الفلسطينيين لا يريدون المصالحة ويتمسكون بسلطتين وحكومتين وشرعيات متصارعة غائبة، فشل كل اتفاقات المصالحة جاء بفعل فلسطيني. نعم عندما نقول إن الفلسطينيين يرفضون المصالحة فهم ينفذون ما تريده (إسرائيل).
لماذا لم نتعلم من المحتل الاختلاف أيديولوجيًّا وفكريًّا والتوحد عضويًّا وسياسيًّا، فعلى الرغم من أن (إسرائيل) تواجه مشكلات وتحديات بقاء داخلية من نزاعات إثنية وطائفية وسياسية واقتصادية بين الأحزاب السياسية على كثرتها في (إسرائيل)، وتباينها ما بين اليمين واليسار والوسط وفساد لدى بعض قياداتها وعلى رأسهم نتنياهو، إلا أنهم كلهم متفقون حول القضايا السياسية بشأن الصراع مع الفلسطينيين، فلا دولة فلسطينية والقدس العاصمة الأبدية (لإسرائيل)، والاستيطان حق، ولا لإخلاء أي مستوطنة في الضفة الغربية ولا لعودة اللاجئين.
ما صرح به رئيس لجنة الانتخابات المركزية انه استمع إلى أفكار إيجابية من حركة حماس وسينقلها إلى الرئيس ونأمل ان تكون النتائج إيجابية ايضا، فلنأمل بأنه سيتم التقاط الفرصة، والتعامل بصدق وحسن نية من أجل الإبداع في إيجاد الحلول المقبولة لدى الجميع للاتفاق حول من سيقوم بتوفير الأمن والنظام، وكذلك سلامة تنفيذ كافة المراحل التي أقرها القانون من أجل نزاهة العملية الانتخابية بدءا بالتسجيل وإعلان القوائم الانتخابية وانتهاء بالطعون والبت فيها وإعلان النتائج، وبالطبع إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين ليساهموا في عرس الانتخابات.