فلسطين أون لاين

السَّنَة للشدّةِ، والعامُ للخيرِ.. نقاشٌ في السَّنَة (1)


من غير المنصف أن يقطعَ كريمٌ الحلوى على قدر أسنانه، وقد سمعتُ لأحد الكرام –حفظهم الله- كلامًا جميلًا وجديدًا في تقدير السنة عدديًّا، واختلاف الناس عبر الأعصار والأمصار في ذلك، وليس شرطًا أن تكون كالتي تساوي عندنا اثني عشر شهرًا، واستدلّ لذلك باجتهادات لطيفة قد تكون محلَّ نزاع، لكن ليس هذا بيتَ القصيد هنا، بل زعمُه أنّ السنة في القرآن ليس شرطًا أن تكون تعبيرًا عن الشدّة والقسوة ونحو ذلك، واستدلّ لذلك بـ(تزرعون سبع سنين دأبًا)، وأنّ هذه السنين السبع كانت مزهرة ومورقة ومشرقة، فكيف يكون وصفُها بالشدة صادقًا؟ وفي بيان ذلك أمورٌ:

(1)

قاس حضرته المسألة هنا بالنتيجة، وهذا غير دقيق؛ لأن القرآن وضّح سبب ذكره لفظ السنة بـ(دأبًا) وهو الكدُّ والاجتهاد والعرق والمعاناة في العمل باستمرار وبلا نوم؛ من أجل الحصول على النتاج المراد؛ أي أنه أخذ من هذا وجهًا جعله بالسنة متّصلا.

(2)

لو قيست كل لفظة بنتيجتها، لكان السجن في حق يوسفَ عليه السلام نفسِه جميلًا –حسب قياسه- رغم أنّ القرآن قال (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)؛ أقصد من جهة تأكيد توجيهه نحو الله تعالى، وتوفير أجواء خلوة، وتفقيهه الأسرى بمذهب الوحدانية والإحسان، إلا أنّ السجن يظل سجنًا، ولا يمكن أن يكون اختيارًا عاديًّا لعاقل. ومثل ذلك قلُه في لبث موسى في مدين؛ فهي أرض غربة يتعلم فيها الاعتماد على الذات، ويلْحِم عظمَه ماديًّا، ويستفيد لغة جديدة، وعلاقات جديدة، ويفتح مصالح دولية وارتباطات تكون له نافعة مستقبلا، إلا أنّ لها وجهًا آخرَ كما بينّاه في النقطة الثانية أدناه.

(3)

قاعدة التغليب اللغوي تعني أنّ ساعةً قاسية من نهار جميل قد تجعله عند صاحبه سنةً (بالمناسبة هذا المعنى أشار له حضرتُه في تضاعيف كلامه الكريم)، وأنّ شهرًا يواجه فيه بأساءُ ولأواءُ وضرّاءُ يدفعه لعدم حسبان هذه السنة من عمره، ولذا زايل القرآن بين السبع الأولى والسبع التالية؛ حيث كانت الأولى في وجه الكدّ والعرق، أما الثانية فـ(شِدادٌ) عمومًا؛ أرضًا، وبيوتًا، وبيعًا وشراءً، ونحوها.

(4)

ونظائرُ ذلك كثيرة؛ أقصد لدلالة السنة على الشدّة والمعاناة عمومًا أو من وجه معيّن؛

1- لما كانت أعمار اليهود في الحرص على الحياة وجمع ألوانها دون نظر في حلال وحرام وصفت بالسنين "يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ".

2- وفي موسى عليه السلام: "وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ"؛ لأنها هنا تعبير عن حالة لمّا ابتدأت كان مكثفًا فيها الترقّب والخوف من لحاق جنود فرعون به، وألم نفسي محتمل مما قد يفعَل بأسرته، فضلا عن أن مكوثه خارج بلده اضطراريّ، يعاني المرء فيه في أجواء الغربة ما هو معروف لمجرِّب.

أما قول فرعونَ له: "قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ"؛ فلأنها كانت على غير اختيارهم ورغبتهم؛ بل على رغبة آسية زوج فرعون.

3- وكذا لما خالف قومُ موسى أمره عليه السلام ابتُلوا بالتيه سنين أربعين "قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ"؛ فهي في إطار العقاب والتأديب.

4- بل إنّ العذاب للكافرين يجعل اليوم الأخرويّ كألف سنة من أيام الدنيا "وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ"، ولذا هي سنين شدّةً وألمًا وطولَ انتظار، وسلبَ إحساسٍ بمرور زمان العذاب، فضلًا عن أنّ الإيقاعَ اللغويّ للكلمة يجعله شديدَ الوقع عليهم، ولذا إذا قالوا: أصابتهم سَنةٌ، يعنون من الابتداء الشدّة والعناء، وهو داخل في عموم قوله تعالى: "وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ".. فهذه واضحةُ الدلالة بلا مثنوية.

ونكمل في الحلقة القادمة بإذن الله التعليقات على هذه الاستخدامات القرآنية مع خلاصات مهمّة.