فلسطين أون لاين

​شقيقته تروي لـ"فلسطين" حكاية بدأت وانتهت بالفراق

الموت "يحرر" روح الأسير فارس بارود.. وجسده يكمل المحكومية

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

28 سنة أخفته قضبان الاحتلال الإسرائيلي مغيبا عن الحياة؛ وفي ذلك العالم المظلم أمضى الأسير فارس بارود 18 سنة من فترة محكوميته في زنازين العزل الانفرادي، لا تواصل، ولا حديث، إلا مع الذات، أو من بعض همسات الأسرى التي يتردد صداها من زنزانة إلى أخرى، يستيقظون وينامون مع الظلام، فلا أشعة شمس تدخل إلى تلك الغرفة الضيقة في باطن الأرض.

طيلة تلك المدة انتظرت والدته المسنة أم فارس ابنها الوحيد، كانت تصبره وتهون عليه ظلم تلك القضبان وسجانيها بأناشيد تحكيها له ولباقي الأسرى، ترقب خروجه من السجن، مع كل عام يمضي كانت تأمل اقتراب لحظة الحرية، واحتضان نجلها لأول مرة منذ اعتقاله في 1991.

لكن أمه التي جهزت له بيتا وشقة توفيت قبل عامين وظل الأمل لدى الأسير أن يتحرر لكن كأن تلك السجون لا تخرج إلا الأرواح.

"حرره" الموت حتى استطاعت روحه أن تعانق روح والدته في الثاني من فبراير/ شباط 2019بعد صراع مع المرض والنسيان ونتيجة السياسة الممنهجة والمتواصلة للإهمال الطبي والاستهتار بحياة وصحة الأسرى وعدم تقديم العلاج اللازم لهم.

خرج الأسير فارس من سجون الاحتلال بطرق غير تقليدية، لن يجد أمه تركض لمسافة طويلة تحضنه، لن يجد رايات ترفرف حوله، وأكتاف تحمله، وعبارات تهنئة له بالحرية، فوالدته الكفيفة رحلت قبله، وما كان لهذا الأسير ليخرج لولا أن تحرر روحا وبقي جسده أسيرا ربما ليكمل ما تبقى من محكومية فيما تعرف بـ"مقابر الأرقام".


غرفة فارغة

غرفته التي جهزتها له والدته وكانت ستحتضن قفص الزوجية ليداعب أطفالا حلم الأسير بارود أن يرزق بهم بعد أن يفرج عنه؛ ظلت فارغة كما كانت من قبل، فالمفاتيح التي أغلقتها مؤقتا، ستغلقها بعد استشهاده داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي للأبد، إلا من بعض الذكريات التي تركتها أمه.

صور مختلفة لمراحله العمرية منذ اعتقاله وحتى بلوغه 51 عاما في "مقابر الأرقام"، وبعض الملابس الجديدة التي رفض الاحتلال إدخالها إليه، شقته في الطابق الثاني التي كانت بانتظاره حتى يكمل بناءها كما يحب، ظلت شاهدة على حلم كان ينبض بالأمل والحياة وتنفس الحرية، لكنه استشهد ورحل.

كتب على الأسير أن يعيش مرارة الفقد منذ صغره، توفي والده وهو لم يتجاوز عامين، وأرسلته والدته لمعهد الأمل للأيتام عاش طفولته بين أطفال تيتموا مثله وعانوا من جرح فقدان الأب لمدة تناهز 10 سنوات، ومرت الأيام والأعوام حتى اعتقله الاحتلال في 23 مارس/ آذار 1991 بذريعة تنفيذ عمليات مقاومة وحكم بالسجن المؤبد مدى الحياة.

شقيقته الوحيدة من والدته فايزة بارود (54 عاما) التي فتحت وهي تروي لصحيفة "فلسطين" صفحات بيضاء لحياة شقيقها بقيت مغلقة طيلة 28 عاما، تبدأ من لحظة الاعتقال: "اعتقل وهو يعمل بالداخل المحتل سنة 1948، شاهدته حينها على التلفاز وهو مقيد يشده جنود الاحتلال ويده على بطنه من شدة الألم (...) علمت فيما بعد أنهم دهسوه بالمركبة قبل اعتقاله".

ست سنوات بعد اعتقاله زارته فيها شقيقته ووالدته، وبقيتا بعد تلك المدة ممنوعتين من الزيارة، أمضى جلها بالعزل الانفرادي، تأملوا جميعا أن يخرج بصفقات التبادل، فتحت شقيقته الخزانة وأمسكت بيدها الأغطية والملابس تخفي عيونها مرارة الفراق: "كانت والدتي تشتري هذه الملابس له، كل يوم كانت تنظفهم حتى لا يرى نجلها أي غبرة على طقم نومه أو ملابسه، تتأمل أن يخرج بصفقات الأسرى".

مع إشراقة كل اثنين وخميس، كانت المسنة أم فارس، تحمل عكازها وصورة نجلها وتشارك في الفعاليات الأسبوعية مع الأسرى، تتضامن مع المتضامنين هناك وتنادي بصوتها لحرية وحيدها، تغني للأسرى عبر مشاركتها في الإذاعات "كان الأسرى كحسن سلامة وجمال أبو الهيجا وعبد الله البرغوثي وغيرهم يعرفونها ويسمعون صوتها"، لكن لا أحد كان يرى دمعتها التي تنساب منها لحظة عودتها للمنزل في كل مرة.

لما سمعت أم فارس أن الاحتلال لن يفرج عن ابنها في إطار صفقة تبادل الأسرى "وفاء الأحرار" في 2011، تركت حفل زفاف حفيدها من بنتها، حزنا وحسرة.

وكان اسمه مدرجا ضمن الأربع دفعات التي اتفقت السلطة مع الاحتلال على الإفراج عنهم وكان من ضمن الدفعة الرابعة عام 2014. تتابع شقيقته: "شعرت والدتي حينها أنها ستعيش ما تبقى من عمرها بعد طول انتظار مع ابنها الوحيد، وكانت دائما تجهز البيت، وتغني كل صباح، لكن الاحتلال تنكر لذلك الاتفاق واصيبت والدتي بصدمة حتى فقدت بصرها من شدة الحزن".

"قتل الروح"

في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 أصيب الأسير بنزيف داخلي نقل إثره إلى مستشفى "سوروكا"الإسرائيلي مغمى عليه وخضع لمنظار، حيث تبين أنه يعاني من إشكالية في شريان يغذي الكبد، فاستئصل هذا الشريان وجزء من الكبد.

تقول شقيقته: "بعد انتهاء العملية لم يمكث في العناية المكثفة لتلقي العلاج، وعاد إلى السجن ولم يتابعه أحد، بل كانوا يعطونه علاجات وأدوية فاسدة وغير معروفة صار يتقيأ دما حتى انهارت حالته الصحية".

لم تستجب سلطات سجون الاحتلال لمطالب الأسرى بتحويل فارس للمستشفيات، واستمرت حالته بالتدهور مع مرور الأيام، وبدؤوا بالتكبير الجماعي حتى استجابت سلطات مصلحة السجون له، ونقل إلى المشفى وهناك قال لهم الطبيب الاحتلالي: "رجعوه فش فيه اشي"، وعاد للسجن يقاوم الألم والمرض حتى استشهد في السجن وخرجت روحه إلى السماء.

أمسكت شقيقته –التي سمعت آخر مكالمة له قبل أسبوعين عبر الهاتف المحمول- صورته ووضعتها بين ذراعيها قائلة: "سنقدم ضدهم شكوى في محاكم الجنايات (...) كنتأنتظر شقيقي الوحيد يخرج ونفرح فيه وفي النهاية يطلعوه بتابوت"، سكت صوتها برهة ثم علت صوت زغاريدها متحدية الألم وهي تردد: "شقيقي فداء الوطن.. هو راية بيضاء ترفرف؛ كل مولود سيولد هو فارس جديد".

وخلسة عن عيون السجان كان الأسير فارس يتصل بأهله من خلال الهواتف المهربة، يطمئن أسبوعيا على أحوال الجميع، ومنهم ياسر بارود (37 عاما) ابن شقيقته الوحيدة الذي يقول: "كان خالي يحب الحياة لديه أحلام بسيطة أن يرى الفضاء والشمس والناس ويتزوج ويرزق بأطفال".

"قديش عمرك يا ياسر؟"، يسأله فيجيب: "الآن يا خالي عمري 27 سنة"، ثم يرد:
"معقول هالقد كبرت وتغيرت"، كانت هذه تفاصيل إحدى المكالمات التي يستذكرها ياسر عن خاله الأسير.

لا ينسى ذلك اليوم وهو طفل لم يتجاوز 13 عاما عندما ذهب مع والدته لزيارة خاله في سجون الاحتلال، وشاهده مقيد اليدين والقدمين ورفض السجان السماح له حتى بالسلام على والدته وشقيقته فصرخ فيهم وسمحوا لياسر بالدخول، وهناك احتضنه بشدة وضمه بين ذراعيه.

بينما كان ياسر يتحدث كان صوت الأناشيد في الخلف .. "أنتم الأحرار مجد كل دار .. وما من محال وكلكم شهود"، انهى حديثه "حينما توفيت جدتي صرخ خالي بالسجن صرخة أبكت الأسرى "أمي التي كانت تنتظرني الآن رحلت".

تبرعات وعقوبات

كان الأسير من الذين تخطوا حاجز الزنازين في تواصلهم مع العالم الخارجي، بدأ حياته بالتضحية بنفسه وعمره، وهنا يتحدث ابن عمته محمد عبيد (47 عاما) عن كرمه وتصدقه على الفقراء، فيقول: "استطاع الأسير التواصل قبل عامين معي، وبدأ يكلفني بالتصدق بجزء كبير من راتبه للفقراء والمحتاجين ومن يعرفهم من أصدقائهم القدامى رغم أن السلطة كانت تخصم 50% من راتبه وهو ممن شملتهم العقوبات، وكنت أرسل جزءًا منه للكنتينا في السجون".

"قبل استشهاده نتيجة الإهمال الطبي بأيام اتصل بي وطلب أن أتصدق بمبلغ 2000 شيقل للفقراء وعدد لي الأسماء، وسألني عن أسماء فقراء قد أكون أعرفهم، للتصدق بهم من راتبه (...) ذهبت للبنك لاستلام الراتب فتفاجأت أن السلطة قطعته لكنه استشهد ولم يعلم أنها فعلت ذلك، ونفذت وصيته لأني كنت محتفظا بجزء من ماله لدي".

"مررت في حياتي على كل مستشفيات سجون الاحتلال، وعندما كنت في ما يسمى مستشفى سجن الرملة رأيت الموت ألف مرة، رأيت المشلولين والمعاقين والجرحى والمصابين بالسرطان، هذا المشفى قبر، أقدام مبتورة، أجساد ترتجف وترتعش، أكياس طبية وأسلاك وعكازات وأوجاع وصرخات دائمة، أطباء في زي جلادين"، بهذا تنتهي حكاية أسير ووالدته كان أملهما في لقاء وحضن واحد يجمعهم لكن في سجون الاحتلال كل قوانين وحقوق الإنسان، منتهكة، محرمة، الشيء المسموح به هناك هو الظلم والتعذيب النفسي والجسدي والحرمان (زيارات، ملابس، أكل، إلخ)، والإهمال الطبي.