لا تختلف مجمل مكونات الشعب الفلسطيني على أن قضية الأسرى هي القضية الأكثر عنفوانا في مواجهة الاحتلال، على الأقل من المنظور الشعبي، ولا أهمية لما يراه المستوى الرسمي في البلد، لذلك رأينا مسيرات عفوية خرجت في مختلف مدن الضفة الغربية نصرة للأسرى -وإن كانت خجولة- عقب تنفيذ وحدات القمع الخاصة، إجراما وحشيا بقمعها لأقسام في سجن عوفر الصهيوني، الذي يحتوي على قسم للأشبال أيضاً.
لكن اللافت في الأمر، أن الاحتلال لم يكن في الاعتداءات السابقة ينشر صور القمع ومقاطع فيديو، ربما في محاولة استغباء للمجتمع الدولي الذي لا يهتم كثيراً بحال الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، ولا يتابع تلك السجون أو ظروف الاعتقال، حتى رأينا أن أسرى يقضون أكثر من 12 عاماً في زنازين انفرادية معزولين تماماً عن أي شيء عدا الجدران وصوت بوابة السجن وهي تجرّ الحديد المتهالك.
أما هذه المرة، فلم يتوان الاحتلال في نشر مقاطع فيديو وصور القمع خاصة خلال إدخال الكلاب البوليسية على الأسرى، وكذلك عمليات تفتيش الغرف وقلبها رأسها على عقب، وكذلك رش الغاز المسيل للدموع وسط عدم وجود منفذ للهواء النقي، الأمر الذي تسبب بحالات اختناق وإصابات في صفوف أكثر من 100 أسير -بينهم أشبال-، ويأتي أمر نشر الاعتداء بالصوت والصورة لعدة عوامل، أهمها:
أولاً: أن الاحتلال يعمد بكل طريقة إلى ترهيب الفلسطيني من أن يقوم بأي فعل من الممكن أن يوصله لمرحلة الاعتقال، والعيش في ظل ظروف اعتقالية غير محتملة، تبدأ من مصادرة الحرية، تنتهي لاحتمالية الموت بسبب القمع الوحشي للأقسام، والقوانين غير الإنسانية التي تفرضها إدارة سجون الاحتلال على الأسرى، ما يعني ترهيبه من أي فعل مقاوم قد يقوم به.
ثانياً: حالة الركود في مناصرة قضية الأسرى على المستويين الشعبي والرسمي، حيث باتت قضيتهم ليست على رأس سلم أولويات أحد إلا عوائلهم، والقليل من المؤمنين بقضيتهم العادلة، أما على المستوى الرسمي تحديداً، فلا أحد ينادي بحرية الأسرى أو يعمل على أرض الواقع لذلك، على العكس فقد كانت خطوات السلطة الفلسطينية في قطع رواتب أسرى ومحررين بسبب انتماءات حزبية، إلا لضرب الإيمان العميق بقضيتهم، ما يعني أنها باتت تعاني من حالة “اللامركزية” بين القضايا الأخرى.
ثالثاً: لا يخفى على أحد أثر الانقسام الفلسطيني الذي فرّق بين الأسرى على أساس فصائلي، حاول الاحتلال من خلال ذلك الاستفراد بأسرى كل فصيل وفق ما يريد، دون وجود مطالبات فصائلية موحدة داخل الأسر أو خارجه، إلا أن الحال السياسي لدى الأسرى أقل ضرراً من حالة الانقسام خارج الأسر، وهذا ما عزز فكرة التفرّد بالأسرى لدى إدارة مصلحة السجون.
رابعاً: إدراك الاحتلال أن نشر مثل هذه المقاطع لقمع الأسرى، لن تحرك ساكناً من قبل أحد، إلا من الأسرى أنفسهم، بينما سابقاً في ظل عنفوان الثورة الفلسطينية، مثل هذه المقاطع وحالات القمع كانت من الممكن أن تكبد الاحتلال مواقف سياسية هو بغنى عنها.
خامساً: في الوقت الذي تنتشر فيه الأخبار حول وجود اتصالات غير مباشرة بين الاحتلال وحركة حماس الآسرة لعدد من جنود الاحتلال، وعدم موافقة الحركة على البدء بمفاوضات صفقات تبادل إلا بشروط، ما زال الاحتلال يتعنت فيها، أراد الاحتلال أن يوصل رسالة للمقاومة في غزة مفادها أن أسراكم بوضع يرثى له، وتحت آلة القمع، فلا تشترطوا مقابل صفقات تبادل.
سادساً: غالى الاحتلال في قمع الأسرى، وليس المقصود بهذا القمع فقط اقتحام الأقسام والاعتداء على الأسرى، إنما ومنذ عام 2006 وإعلان الاحتلال ما يسمى “قانون شاليط” الذي أقرّ فيه حرمان الأسرى من التعليم ومنع الزيارات عن أسرى حماس من غزة، وكل هذا مرّ دون اكتراث من أحد، والأسرى هم مَن يواجهون صلف السجان، وحدهم يخوضون معركة الحرية.
سابعاً: إن معركة الوعي والإعلام الذي نخوضها اليوم مع الاحتلال لن تتوقف على هذا الحد، إنما سيعمل الاحتلال على إماتة الشعور فينا تجاه القضايا الأساسية كلها التي شكلنا على أساسها الحق الفلسطيني الذي لا تراجع عنه، وأصبحت الثوابت التي مَن يتخلى عنها يعد متساوقا مع الاحتلال، على أمل ألا نصل لهذه المرحلة من البلادة واللاشعور وترك الأسرى في المعركة وحدهم على اعتبارها معركتهم؛ ليست معركة الكل الفلسطيني.
ثامناً: لا يخفى على المتابع للشأن الإسرائيلي، أن الانتخابات التشريعية التي ستجري قريباً خلال الأشهر القادمة، والحملات الانتخابية التي يقودها اليمين الإسرائيلي لمواصلة حكمه، تمثلت في تصريحات وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي جلعاد أردان، والذي هدد بفرض المزيد من العقوبات على الأسرى، وأن مصلحة السجون والأمن الداخلي على استعداد لأي طارئ، ما يعني أن قضية الأسرى باتت في مهب الدعاية الانتخابية ويتنافسون على مَن يجرم أكثر ليرضي الشارع الإسرائيلي أكثر فيفوز في الانتخابات بأعلى الأصوات والمقاعد.
ختاماً، أدرك الاحتلال بان قضية الأسرى انتقلت في السنوات الماضية من قضية حساسة تحرك الجماهير وتقلب الموازين إلى قضية رمزية شعورية لا أقل من ذلك ولا أكثر.