فلسطين أون لاين

​رحلة مع (فلسطيني بلا هوية) – الحلقة الأولى

قراءة المذكرات والتجارب الشخصية هي مَهَمةٌ مُهِمةٌ، لأنها ترجع عقارب ساعتك إلى حِقبةٍ زمنيةٍ ماضيةٍ لفهم طبيعةِ الأحداث التي وقعت آنذاك، خاصة إن كان كاتبها شخصية لها وزنها في صناعة الأحداث.

وربما لا يخلو زمان أو مكان من رجال كتبوا ما كانوا له صناعٌ أو ما كانوا عليه شهودًا، مع الإيمان بأن كتابة الأحداث ليست بريئة من الاتهام، فهي عمل بشري خاضع لأهواء الشخص.

وتاريخنا الفلسطيني حافل بمن كتبوا ما صنعوه أو ما شهدوه، وانطلاقًا من أن من لم يقرأ التاريخ فسيموت عطشًا في صحراء الحاضر، وسيصبح هشيمًا وتذروه الرياح، ولن يمشي منتصب القامة نحو المستقبل، بل سيدخله مطأطئ الرأس وحافي القدمين، وسيجثو على ركبتيه يطلب البقاء على قيد الحياة، ولو بثمن بخس؛ إننا سنبدأ عبر بوابة "فلسطين" رحلة عودة للإبحار في تجارب ومذكرات شخصيات وازنة فلسطينية وصهيونية، وربما عربية ودولية كان لها دور في القضية الفلسطينية، لنكشف ما جاء فيها.

ستكون رحلتنا الأولى مع أحد أبرز قادة حركة فتح (صلاح خلف)، الذي أخبرنا بما حدث معه منذ أن كان في الوطنِ صبيًّا، حتى صار في الغربة كهلًا، أخبرنا بما أفرحه وأبكاه، ففرحنا معه وبكينا، لأننا أبناء أم واحدة،، وبعد رحلة طويلة قضى في الغربة أغلبها يبحث عن هويته، وقبل سقوط رأسه في غير مسقط رأسه اتضح له أنه (فلسطيني بلا هوية).

الفصل الأول: بذور الحقد

"صلاح خلف" عن طبيعة العلاقة الجيدة بين اليهود والعرب آنذاك, فجده الشيخ عبد الله -وهو رجل دين من غزة- تزوج أحد أبنائه يهودية، لكن "خلف" حين رأى شبابًا صهاينة يتدربون على السلاح، وعرف أنهم ينتمون لمنظمة "الهاغانا" الصهيونية، قال: "كانت تلك أول مرة أسمع فيها عن "الهاغانا"، والمرة الأولى التي أفهم أننا ذاهبون إلى الصدام".

أخبرنا خلف عن "النجادة"، وهي منظمة فلسطينية شبه عسكرية يقودها مدير مدرسته "محمد الهواري"، والمدرس "رشاد الدباغ"، فانتمى لفرع الأحداث، وذكر أن المنظمات الفلسطينية آنذاك كان يعوزها الدعم، فكانت تدرب أعضاءها باستخدام البنادق الخشبية، وتفتقد الوجود المنظم، فانهيار الثورة الشعبية 36 - 1939م أباد قادتها، وبعثر القادة الأحياء بين السجن والمنفى.

ولم ينس "خلف" الحديث عن الحاج أمين الحسيني، فقال: "في تلك المدة بدأت أسمع عن المفتي أمين الحسيني، وأنه لا يحب منظمة النجادة، لاعتقاده رغبتها في تصدر المشهد مقابل القادة التاريخين، وفي المدة نفسها عاد جمال الحسيني ابن عم المفتي من المنفى، فشاركت في استقباله الحاشد في يافا، وكان جمال الحسيني من قادة منظمة فلسطينية تسمى "الفتوة"، فبدأت محاولات دمج "الفتوة" مع "النجادة"، فأوفدت جامعة الدول العربية لذلك ضابطًا مصريًّا اسمه "محمود لبيب"، ووحدت المنظمتان في منظمةٍ واحدةٍ تحت اسم "الشباب"، لكن الوحدة لم تدم طويلًا، لأن "محمد الهواري" زعيم منظمة "النجادة" تحول لاحقًا إلى التعاون مع العدو".

يعلق "خلف" على ذلك بالقول: "ويقيني أن الإنجليز ليسوا غرباء عن إجهاض هذا المشروع، فقد عملوا بوساطة عملائهم داخل الجامعة العربية على الدسيسة والكيد، لإضعاف الحركة الوطنية الفلسطينية، إن بإثارة الانقسامات داخلها، وإن بجعلها غير فاعلة".

وعن أحداث ١٣ مايو 1948م، ذلك اليوم الذي سبق إعلان تأسيس كيان الاحتلال الذي سيطرت عصاباته على المنافذ، يقول: "لم يبق لنا سوى البحر، فركبته مع الناس لنبدأ منه رحلة المنفى، وأستحضر مشهدًا مؤلمًا؛ فقد نسيت امرأة أحد أولادها وطلبت العودة للمرفأ لتبحث عنه، رُفض طلبها، وطمأنها الركاب بأن الطفل سيؤوى ثم يرسل لغزة لاحقًا، لم تقتنع، وألقت بنفسها في البحر، ثم تبعها زوجها، ولأنهما لا يجيدان السباحة ماتا".

الفصل الثاني: سنوات الحمل

يقول خلف: "نجحتُ في البكالوريا، وخرجتُ لمتابعة تعليمي الجامعي في مصر، فلم يكن عام 1951م عام الانفصال عن العائلة وبداية حياة الطالب، فحسب، بل نقطة انطلاق في عملي النضالي، ففي خريف عام 1951م ألغت جامعة الدول العربية قرار المخصصات المالية التي تُدفع للطلبة الفلسطينيين المحتاجين، سخط الطلبة، وسرعان ما رميتُ بنفسي في المعترك، فشاركت بالتظاهرة التي نُظمت أمام مقر الجامعة العربية، واقتحم المقر ومكتب أحمد الشقيري الذي كان يشغل منصب الأمين العام المساعد المكلف بالشئون الفلسطينية، ونجحنا بإعادة المعونة لسابق عهدها، غير أن "البوليس" أوقف قادة التظاهرة وأودعهم سجن عابدين، وكان من الوارد تمامًا إبعادي إلى غزة"، لكن الأزمة التي كان يجتازها النظام الملكي جعلت السلطات تعدل عن مشروعها، فأفرج عنه بعد 49 يومًا.

وعن ظروف لقائه مع ياسر عرفات يحدثنا خلف: "في تلك الحقبة التقيتُ طالبًا يدرس في كلية الهندسة، سنه ٢٢ سنة، يتمتع بنشاطٍ وافرٍ، وكان مسئولًا عن التدريب العسكري لطلاب الهندسة الراغبين في مقاومة الإنجليز في قناة السويس، إضافة إلى دوره النضالي في اتحاد الطلاب الفلسطيني، لم يكن أي منا منتم لأي حزبٍ سياسي، لكني متعاطف مع الإخوان غير منتم لهم، لأن ميولي الطبيعية حملتني على الانضمام لركب قومية علمانية لا يزال علينا توضيح شكلها وجوهرها، ولم تكن لدينا أفكار مسبقة بهذا الصدد، إلا أننا كنا نعلم على الأقل ما هو مضر بالقضية الفلسطينية، وكان تقديرنا أن على أبناء وطننا الاعتماد على أنفسهم لتحقيق أهدافهم بدل انتظار شيء من الأنظمة العربية الفاسدة في معظمها.

فقررتُ أنا وعرفات تقديم ترشيحنا لقيادة اتحاد الطلبة الفلسطينيين تحت اسم (الاتحاد الطلابي)، وكانت لائحة المرشحين تشتمل على تسعة أسماء في اللجنة التنفيذية، ستة منهم ينتمون لفريقنا، وواحد شيوعي، والثالث بعثي، وفازت اللائحة بأغلبية ساحقة، وعين عرفات رئيس اتحاد الطلاب الفلسطينيين حتى أنهى دراسته الجامعية عام ١٩٥٦م، وخلفته أنا".

يكمل خلف: "بعد توليتي الاتحاد بشهرين في تشرين الثاني 1952م، عادت الجامعة العربية لإيقاف مساعدات الطلبة الفلسطينيين، فعاد الإضراب واعتقلوني، لكني نجحتُ في الفرار، ثم بعدها أبلغ الأمين العام اتحاد الطلاب بأنه لن يُطلق سراح أي أحدٍ، إلا إذا سلم "صلاح خلف" نفسه، وبناء على نصيحة ياسر عرفات سلمتُ نفسي، وحجزت في قسم "المومسات" في سجن عابدين، ثم أفرج عني بعد ٣٥ يومًا بتدخلٍ شخصي من أحمد الشقيري".

وعن رأيه في جمال عبد الناصر يقول: "تعاطفتُ معه قليلًا؛ فقد شاركتُ الإخوان المسلمين والشيوعيين في الحذر منه، وأخذتُ عليه عدم فعله أي شيءٍ تجاه القضية الفلسطينية، خاصة فيما يتعلق بسلبية الجيش المصري تجاه الغارة الصهيونية على غزة في ٢٨ فبراير ١٩٥٥م، فتظاهر الطلبة الفلسطينيون للمطالبة بإلغاء نظام التأشيرات المفروض عليهم لدى دخولهم غزة وخروجهم منها، وإعادة المواصلات الحديدية بين غزة ومصر، وتدريب عسكري إجباري للفلسطينيين ليدافعوا عن أنفسهم ضد العدو، فاجتمع عبد الناصر بالمتظاهرين في مجلس الوزراء، ودار نقاش أخاذ، ولم نلبث أن أسرنا سحر هذا الرجل الذي بين أنه وطنيٌّ كبيرٌ".

يتابع خلف: "بعد تأميم قناة السويس في تموز ١٩٥٦م، بعده بثلاثة أشهر شكلت كتيبة "كوماندوس" فلسطينية لقتال الصهاينة، إلى جانب المتطوعين المصريين، ثم اتجهت أنظارنا صوب الجزائر، حيث شكل الوطنيون جبهة وطنية موحدة ضد الجيش الفرنسي منذ سنتين، تتعامل مع الكل العربي دون أن ترهن قرارها لأحد، رغم التباينات بينهم، فمعاركهم أعجبتنا، وتساءلنا عن إمكانية تأسيس حركة واسعة تضم الفلسطينيين من جميع الاتجاهات، وينتمون إليها بصفة فردية، لإشعال الكفاح المسلح في فلسطين؛ فقد كنا متفقين على مبادئ عامة لتحكم حركة أحلامنا، وتسمية حركتنا، وهي حركة تحرير فلسطين، التي تصبح الأحرف الأولى منها "حتف"، وإذا ما قلبت تصبح (فتح)".

الفصل الثالث: انفجار التيار

يقول "خلف" عن ظروف تأسيس منظمة التحرير: "من بداية سنوات الستين استاء الفلسطينيون بسبب عدم المبالاة الذي كانت تظهره إزاءهم مختلف الأنظمة العربية، وكان التقدير السائد لدى العديد من الحكومات العربية ضرورة إنشاء هيئة لامتصاص الغضب المتزايد الذي يهدد بأن ينقلب عليها، ففضل أحمد الشقيري عن المفتي أمين الحسيني بحكم تجربته في الحياة الدولية بتمثيله السعودية في الأمم المتحدة، وكلف في سبتمبر 1963م بالبحث عن وسائل تأكيد وجود كيان فلسطيني، فحدث ذلك، وأُسِّس جيش التحرير الفلسطيني، وأرى أن هذا الجيش طُعمًا وخديعة، إذ لم يكن مرصودًا لمحاربة (إسرائيل)، إنما لتحويل الفلسطينيين عن محاولة خوض كفاح مسلح مستقل".

ويضيف: "اكتشفت فتح المناورة، وقدرت خطورة هذه المؤسسة التي تشكلها وتحركها الأنظمة العربية على الحركة الفلسطينية، وأصرت على التصدي لمحاولات إخضاع الثورة لإشراف أي نظام عربي، لضمان استمرار المشروع الوطني، فعقدنا في قيادة فتح اجتماعًا بالكويت في بداية خريف عام 1964م، لمناقشة المسألة، فكانت المناقشة حامية بين "فريق المتعقلين" وفريق "المغامرين"، ولم تحسم النتيجة إلا بعد عقدنا اجتماعًا موسعًا بدمشق في أكتوبر 1964م لكوادر فتح القيادية، إذ رجحت كفة فريق "المغامرين" باتجاه البدء بالعمل العسكري ضد الاحتلال، وبعد ذلك بأيام قرر ميعاد أول عملية عسكرية ضد (إسرائيل)، فكان يوم 31 ديسمبر 1964م".

وعن لجوء فتح إلى العمل العسكري يقول خلف: "رأينا أنه وسيلة لفرض القضية الفلسطينية على الرأي العام العالمي، تجميع الجماهير على أساس أن الكفاح المسلح وحده قادر على التسامي على التباينات الأيديولوجية، فحاولنا فتح طريق حرب العصابات التي أعددناها بوسائلنا المتواضعة، ولما كنا لا نتمتع بدعمٍ مالي رسمي اشترينا من سوق السلاح أسلحة خفيفة بكميات ضئيلة، ومن نوعيات سيئة الجودة، في غالب الأحيان، وكان النظام العربي الوحيد الذي يؤيدنا عام 1964م هو نظام "أحمد بن بللا" في الجزائر، إذ رخص لنا إقامة ممثلية في الجزائر، غير أنه برغم صلته الوثيقة بعبد الناصر رفض إعطاءنا أية معونة مادية، وإنما تسلمنا أول شحنة من السلاح من الجزائر عام 1965م، بعد تسلم بومدين مقاليد السلطة، وذلك بفضل اللواء حافظ الأسد الذي كان آنذاك قائدًا لسلاح الطيران السوري، فكان يتسلم الأسلحة المرسلة لنا بالطريق الجوي على سبيل الوديعة، ويسلمها لنا دون علم حكومته، ودون علم حزب البعث الذي ينتمي إليه".

وعن رأي الأنظمة العربية في الكفاح المسلح يقول خلف: "وجه الفريق المصري علي عامر قائد القوات العربية الموحدة مذكرة للحكومات العربية، طالبًا إليها قمع نشاطاتنا بشدة لعدم إعطاء (إسرائيل) ذريعة لمهاجمة البلدان العربية، فكان أن اغتنم الأردن ولبنان ذلك، في حين تبنت دوائر الأمن الكويتية إزاءنا موقفًا محايدًا، وفقًا لتقاليدها في الحكمة والتسامح، وبسبب تعاطفها مع حركة تحرر لا تهدد استقرارها، وكذلك عدد من المناضلين البعثيين السوريين كانوا يقدمون لنا المساعدة، تقديرًا منهم أن كفاحنا هو أهل للدعم".