لقد قام الصحابة والعلماء بجهود كبيرة لرسم قواعد يمكن بها فهم الحديث فهمًا صحيحًا، والوقوف على مراده, فإن السبيل إلى إدراك قصده هو جمع القرائن التي يحصل بها ظن غالب أن هذا هو المعنى الذي قصده النبي (صلى الله عليه وسلم), وصعوبة القطع بمراد النبي (صلى الله عليه وسلم) لا تعني أن القطع بالدلالة غير ممكن, والقرائن هي:
أولًا: اللغة.
ثانيًا: النصوص الشرعية الأخرى.
أولًا: اللغة: فلابد من فهم الخطاب واستيعاب دلالاته المنطوقة أو المكتوبة, وذلك بالمعرفة بلغة الخطاب, والتمكن من لسان المتكلم؛ فهذا يمثل جزءًا من أجزاء فهم النص, إلا أنه في كثير من الأحيان لا يكفي ذلك في معرفة قصد المتكلم, لأسباب كثيرة منها: (ينظر نظرية الاعتبار/ 16):
1- طبيعة اللغة، وما تضمنته من الخصائص التي تجعل النص من اللغة لا يستقل بذاته ولا يكتفي بنظام اللغة وقوانينها للإفصاح عن المراد، ففي اللغة مشتركات لفظية, ومجاز وحقيقة, وهذا يعني أن معرفة مراد المتكلم تحتاج إلى عناصر خارجة عن بنية الخطاب, صحيح أن السياق يوضح المعنى في أحيان كثيرة، لكن الصحيح أيضًا أنه في أحيان كثيرة أخرى لا ينفي الاحتمال.
2 - طبيعة الحديث النبوي الشريف، فإن هناك عددًا من السمات المؤثرة فيما نحن بصدده، من أهمها:
أ - فصاحة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وقوة بيانه، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) أفصح العرب، ويستخدم لغة فنية رفيعة، وقد أوتي جوامع الكلم، فقد صح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "بعثت بجوامع الكلم" (البخاري 2977، ومسلم 523).
ب- أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يتكلم بلغته العربية في أحوال مختلفة، ومقامات متباينة، فيأتي كلامه وخطابه مناسبين لظروفه وملابساته، وعلى وفق ما يقتضي المقام.
إن الإعراض عن استحضار هذه العناصر المؤثرة يوقع في فهم لا يستقيم مع قواعد اللغة، وقد يتصادم مع مسلمات الشريعة المعلومة المقررة، ويمكن أن نلمس هذا في حديث أبي أمامة t حين نظر إلى آلة حرث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل" (البخاري، رقم 2321).
ج - أن الحديث قد يكون فعلًا، وأفعال النبي (صلى الله عليه وسلم) وتصرفاته في المواقف التي تعرض له يحكيها أصحابه ممن شهد وحضر، وقد ينقل الصحابي جزءًا من الصورة، وينقل آخر جزءًا آخر، فلا يمكن أن تكتمل الصورة إلا باستيعاب جميع الأجزاء من جميع الروايات، ولذلك عني المحدثون بجمع المتابعات والشواهد، وعنوا بالمقارنة بين متون الأحاديث، وما حصل بينها من الاختلاف والزيادة والنقصان باختلاف رواتها.
وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم