فلسطين أون لاين

​نعش واحد احتضن أشلاءهم

هدية إسرائيلية دموية تحول"إيناس"وطفلتها وجنينها لأشلاء

...
كتبها / يحيى اليعقوبي

أمسى محمد أبو خماش "28 عاما" وزوجته إيناس "23 عاما" الحامل بشهرها التاسع، وطفلتهم بيان "عام ونصف" يحلمون بقدوم مولودهم الجديد، اختاروا لهذا الجنين اسم "رزان" إن كان بنتا أو "مختار" إن كان ذكرا على اسم شقيقه "مختار" الذي استشهد في 14 مايو/ أيار الماضي خلال مشاركته في مسيرة العودة، لكن أبى الاحتلال إلا أن يهديهم هدية دموية فأرسل لهم صاروخا جعل الجنين والطفلة بيان ووالدة إيناء أشلاء تناثرت دماؤهم على جدران المنزل لترسم لوحة باللون الأحمر ستبقى شاهدة على هذه الجريمة، التي جعلت الأب قعيدا مصابا بالمشفى.

استيقظ محمد وهو ويسأل "أين بيان؛ أين إناس؟، كان الجميع أمام اختبار صعب في كيفية نقل الخبر له في قصة مكتوب فيها في فصل الوجع أن الفراق قدر ومصير، فهذه العائلة أمست بأحلام وردية وأصبحت بهدية دموية.

بعد مشورة الأطباء، قررت العائلة دفن الجنين وبيان وأمهما دون إخبار محمد، الذي لم يدر ما يجري، استيقظ يظن أنه سيرى مولوده الجديد ويحتضنه بين ذراعيه، "أين إيناس؟"، الجميع صامت لا يعرفون كيف سيمهدون له الخبر، شقيقه كمال بادر بالرد "ذهبت زوجتك إلى قسم الولادة لتجري الفحوصات؟".

مرت الدقائق واقتربت مراسم الدفن، بدأ محمد يقرأ في عيون المحيطين به التي تبرق بالدموع أنهم يخفون شيئا ما، عاود السؤال "أين بيان؟"، احتسى الجميع جرعة من صمت كسرها كمال مرة أخرى ليذكر شقيقه باستشهاد أخوه "مختار" قبل شهرين "مختار مش خسارة في ربنا"، بدأت الإشارات توضح لمحمد أكثر "قوم إطلع برا" قالها لكمال غاضبا، لكن الأخير أصر على البقاء لمواساة شقيقه، ووضع له النقطة الأخيرة "بنتك استشهدت".

صمت محمد حبس دموعه، ليلتفت مرة أخرى وكأن طاقة داخلية جعلته يحرك رأسه المصاب "طيب وين إيناس"، يكمل كمال وعيونه تبرق في الدموع لم يأذن لها بالانسدال على خده "بعدما رأيت حالته ساءت فضلت أن يخبره والد زوجته باستشهاد إيناس وخرجت من الغرفة خوفا من الصدمة".

تلقى محمد الذي - أصيب براسه وكتفه وتعرض لكسر بقدمه وظهره وشظايا في أنهاء جسمه - خبر استشهاد زوجته وروحه الثاني "إيناس" بصدمة لا يمكن للكلمات وصفها، (كمال) بنبرة صوت غاضبة يعلق وعيونه ترسم لوحة من جراح: "هذا بنك أهداف الاحتلال طفلة عمرها عام ونصف وجنين ووالدتهم يقصفهم بصاروخ من طائرةf16، كان أخي ينتظر مولوده على أحر من الجمر (..) هذه الجريمة لو حدثت بالمجتمعات الغربية أو حتى بالمجتمع الإسرائيلي لقامت الدنيا ولم تقعد".

نعش واحد

نعش واحد احتضن أشلاء إيناس وجنينها وطفلتها، كما احتضنتهم في أحشائها وغمرتهم بحبها وحنانها، فكان "مختار" على وشك إبصار الحياة قبل ذلك الصاروخ الذي دمر أحلام هذه الأسرة، في بيت العزاء لم يستطع والد الشهيدة النطق بحرف واحد كانت الدموع تغطي الحروف كلما حاول الكلام، ليصمت وتنوب عنه الدموع في رواية القصة فأي وجع أصعب حينما تسكب العيون أحزانها.

أفضل شخص يمكن أن يخبر الجميع عن "إيناس" هي سلفتها المقربة "ختام"، فلا أحد يعرف شيئا عن الوجه الآخر لإيناس أكثر منها، ستدرس هذه الحكاية يوما ما للأجيال .. حكاية لعائلة قتلت بلا ذنب، وقذفت الطائرات حممها عليهم وهم نائمون.

زارت "ختام" وبعض سلفاتها "إيناس" في منزلها – وهي بالمنسبة تعيش في شقة بالإيجار – عصر الأربعاء الثامن من آب/ أغسطس 2018م قبل القصف بساعات، استقبلت إيناس الزائرين بساعدة وسرور قبلت سلفتها المقربة بحرارة مما دفع الأخيرة للاستغراب "إيناس، فيك شي؟"، ابتسمت في وجهها "أنا بحبك كتير" وعرضت عليهم ملابس مولودها الذي تستعد لاستقباله، داعبتها ختام ممازحة "خلص بدي أخد بيان عندي"، احتضنت ايناس ابنتها وردت مبتسمة "بيان روحي ..بتقدري تاخدي اللي ببطني (..) أما بيان لا".

كانت إيناس تدرس تخصص تعليم أساسي بجامعة الأزهر في غزة بالمستوى الثالث، "هي أم مثالية كان طموحها أن تكمل تعليمهما وتصبح مدرسة وتساعد زوجها الذي يعمل شرطيا ويحصل على نصف راتبه، في مصاريف الحياة".

الساعة الثامنة مساءً وبعد جلسة عائلية بامتياز غادر الضيوف، وقامت إيناس بطي ملابس جنينها وهي سعيدة تخبره أنه ستراه غدا أو بعد غد لترويه من حنانها، كانت تعتقد أن المولود بنت لذلك اختارت لها اسم "رزان" لكن اكتشف الجميع بعد القصف أنه ذكر كانت أشلائه متجمعة بإحدى زاوية الغرفة التي ناموا فيها.

شجرة أسرار إيناس

تفتخر ختام برفيقتها "أحبت إيناس الحرية والمطالعة والثقافة، والرحلات وقراءة الكتب، ستبقى ختام تتذكر الطريق الذي كانتا تتمشيان به في أشهر الحمل الأخيرة وهن يودعان حكاياهم وأسرارهم، للبحر ولشجرة الزيتون والنخيل في طريق عودتهم للمنزل بعد أن تجلسا تحت ظل الشجرتين لأخذ استراحة بين الطبيعة التي تحبها كان على "بلدية دير البلح" أن تسميها رسميا "شجرة إيناس وختام".

"هل ستكملين العام الثالث في الدراسة الجامعية بعد المولود؟" تسأل ختام صديقتها قبل يومين من حادثة القصف، فأجابتها "سأكمل دراستي وانهي عامي الجامعي الأخير، وسأصطحب طفلي في المحاضرات وسأترك بيان عند والدها" كلها مخططات تؤكد حب إيناس للحياة والحرية والطموح، لكنها أحلام لم تكتمل.

بيان هذه الطفلة التي أغدقها والديها بالحب والحنان، وشراء الألعاب لم يتركها الاحتلال تلعب وتمرح بها، فكل ألعابها تناثرت وحرقت وتمزقت كما تمزق قلب "ختام" بفراق صديقتها وسلفتها واختها.

لم يجف جرح عائلة أبو خماش التي دفنت ابنها الشاب "مختار" في 14 مايو/ أيار الماضي، إثر استشهاده بعد إطلاق النار عليه من قبل قوات الاحتلال خلال مشاركته الأولى والأخيرة في مسيرة العودة، ليتجدد ويتعمق الجرح بالألم والحزن بعد قتل الاحتلال لثلاثة من أفراد العائلة.

عاشت إيناس من سكان "بيت لاهيا" شمال القطاع، وتزوجت من محمد الذي يسكن "بدير البلح" وسط القطاع، في شقة للإيجار منذ خمسة شهور بعد أن أمضت نحو عامين ونصف في بيت عائلة زوجها المسقوف من ألواح الزينكو، وهي تحلم بحياة كريمة حرمها الاحتلال من تحقيقها.