يقول الله سبحانه وتعالى: [ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ{9} قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ{10} ].
هذه الآيات جاءت مباشرة بعد ذلك الشحن العاطفي والمسوغات الفاسدة التي طرحها إخوة يوسف، التي أوصلتهم لنتيجة فاسدة، وهي أن أباهم في ضلال مبين.
وما دام الأب في ضلال مبين ؛ إذاً لا بد من تصويب ضلاله لتستقيم حياتهم ، وهذا لا يكون إلا بالتخلص من سبب معاناتهم وهو يوسف عليه السلام ، وهذا استلزم الانتقال من المسوغات والدواعي إلى التدبير ثم التنفيذ .
هنا جاءت الآية مباشرة بقوله ( اقتلوا يوسف ) دون بيان القائل لها للإشارة إلى أن فكرة التخلص من يوسف هي موطن اتفاق بين جميع الإخوة ... لذا التصور الطبيعي لهذا التخلص هو إخراجه من دائرة الحياة ... وهذه الآية تبرز عظمة ما استزلهم به الشيطان وسولت به أنفسهم .. فالخيار الأول قتل يوسف ، والثاني هو ( اطرحوه أرضا ) وجاءت هنا كلمة أرضاً نكرة لبيان مقصودهم ، وهو تركه في البرية المجهولة لديه ليهلك فيها أو تأكله السباع ... وكلا الخيارين كان مراً .
وهذا الاقتراح الذي بلغ مداه في التفكير بقتل يوسف احتاج إلى التذكير بحسناته لهم وهو ( يخل لكم وجه أبيكم ) فأساس المشكلة لديهم هو انشغال يعقوب بولده يوسف عليه السلام على حسابهم ، ولو تم التخلص من يوسف ، عندها تخلص لهم مشاعر أبيهم التي كانت مركزة ومتجهة نحو يوسف عليه السلام ... فهم هنا لبسوا ثوب المظلوم الذي يريد أن يدفع عن نفسه المظلمة .. وهذا شأن الحسد وآثاره على النفس .
( وتكونوا من بعده قوماً صالحين ) هنا كلمة صالحون لها دلالات عدة، هل هو صلاح أنفسهم التي تبلبلت بسبب ظلم أبيهم في تركيز عواطفه نحو يوسف من دونهم .. والسياق يرشد إلى ذلك كأنه النتيجة لخلو وجه أبيهم نحوهم ... فخلو وجه أبيهم نحوهم بالتخلص من المنغص الأساسي به يترتب عليه هدوء أنفسهم وعودتها إلى طبيعتها بعيداً عن الشحن العاطفي وما يترتب عليه من ضغوطات نفسية .
كذلك يحتمل المعنى أنهم يقصدون بالصلاح هنا ، صلاح دنياهم والسياق يحتمل ذلك بقوة ، فالتنغيص الذي أحدثه يوسف في نفوسهم جعلهم لا يفكرون في تدبير مصالحهم بما ترتب على ذلك تعطيل دنياهم من حال الاستقامة ، وبالتخلص من أساس المشكلة يترتب عليه تفرغهم لدنياهم ومن ثم صلاحها في حقهم .
كذلك يحتمل السياق أنهم أرادوا صلاح دينهم ، فمحبة أبيهم ليوسف عليه السلام نغص عليهم دينهم وهم أبناء نبي ؛ حيث انشغلوا بالتآمر والغيبة والنميمة والكيد وهي كلها صفات مفسدة للدين هذا من جهة ... ومن جهة أخرى لئن كان قتل يوسف خطيئة فهم سيحدثون توبة من بعدها ويعودوا لصلاحهم .. وذلك في حال استعظام الجرم من البعض ، وكأن قائلا منهم قال لهم نرتكب فعلتنا ثم نتوب ... فإذا أرادوا هذا المعنى فهم قوم يجهلون .
إذا جريمة قتل يوسف بدأت بمبررات تسوغها وانتهت بمسوغات تبررها وتحض عليها وتزينها في قلوب الإخوة ... وهذا يبرز لنا حجم استزلال الشيطان لأبناء نبي تربوا على احترام الإنسان والإنسانية وتربوا على تعاليم تبرز فظاعة القتل بغير الحق .. لكن نزغة الشيطان وتسويل النفس أخفيا كل تلك التعاليم وزينا اقتحام هذه الجريمة النكراء .
لكن بعد هذا السقف العالي الذي انفجر في وسط الإخوة كبرا كان هائجا أوصلهم لفكرة التخلص من أخيهم بقتله أو بإسلامه للقتل ... نجد أن بعض الإخوة شعر بخطورة ما سيقدم عليه إخوته بالرغم من اتفاقه معهم بضرورة التخلص من يوسف ، لذا ( قال قائل منهم) من هذا القائل من الإخوة ؟ الآيات لم تفصح عن اسمه ليبقى قلبنا سليما تجاه إخوة يوسف، حيث أمكن تصور هذا القول من أي واحد منهم .. وهذا من باب ستر الله لهم .. خاصة أن نهايتهم مشرقة ورمزهم السماوي أنهم كواكب في الخير والنور .. لكنها نزغة شيطان ألمت بهم وتسويل نفس.
( لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ) هذا نهي للإرشاد وذكر اسم يوسف صراحة ولم يقل لا تقتلوه لكي يلين قلوبهم ويعزز فيهم عاطفة الأخوة .. ثم بين لهم بما أننا نتفق على ضرورة التخلص من يوسف ، فليكن تخلصنا منه دون إقحام أنفسنا بجريمة القتل ، وذلك بأن نضعه في بئر في طريق القوافل فتأتي قافلة فتأخذه معها كبضاعة ومال ، فيبيعوه في بلاد بعيدة عنا وبذلك نكون تخلصنا من يوسف عليه السلام ، وقد أنهى عبارته بقوله ( إن كنتم فاعلين ) لتأكيد ضرورة الأخذ بهذا الرأي بعيداً عن فكرة قتل يوسف عليه السلام. ويظهر من السياق الذي يليه أنهم تواثقوا على هذه الفكرة واستبعدوا فكرة القتل ... وبهذه العبارة نزل سقف الجريمة من القتل إلى النفي .
وفي ذلك لطيفة مهمة وهي أن من فيه صلاحا إن هيجته الظروف أو طيف الشيطان أو الغضب لإقحام نفسه في موبقة أو جريمة أو ذنب عظيم ، فإنه لا يحرم من داعي الحق في داخله يجعله يحجم عن فكرته أو يخفف آثارها ، وهذا من فضل الله على إخوة يوسف عليه السلام رعاية لما فيهم من صلاح ، وسد مداخل الشيطان الموبقة على قلوبهم .