فلسطين أون لاين

رصاصة تُغيِّب الطفل "جحجوح" عن رمال الشاطئ"

...
أثناء تشييع الشهيد محمد جحجوح- تصوير / ياسر فتحي
غزة- يحيى اليعقوبي:

عقارب الساعة تحط رحالها عند الخامسة مساء الجمعة (21 ديسمبر/ كانون أول 2018). يرن هاتف ساهر جحجوح (20 عامًا) الموجود في مجمع الشفاء الطبي بمدينة غزة، بعد أن رأى صورة انتشرت على شبكة الإنترنت لطفل شهيد شك بأن يكون شقيقه محمد.

على عجلٍ رد على المكالمة، فالمتصل والدته التي تغلي من القلق: " كيف أخوك محمد !؟"، هوّن ساهر الذي يكاد يغمى عليه على والدته "هيني بدور عليه هو كويس"، انتهت المكالمة ونبضات قلب أمه تضطرب، فلم يعطها ابنها الاطمئنان الذي يوقف هذا الاستشعار الداخلي.

"مليش غيركم أنتم الثلاثة" .. قالتها الأم لأبنائها الثلاثة ساهر ومحمد (16 عامًا) وعبد الله (13 عاما) مع إطلالة صباح الجمعة، لعله حدس داخلي كانت تشعر به، تخشى أن تغيّب رصاصة جنود الاحتلال وقناصته أحدا من فلذات كبدها، لم تشأ أن يفارقها أحدهم.

على عتبات منزله، يحدث محمد ابن جيرانه حسن حسونة (19 عامًا) قبل الانطلاق لمسيرات العودة عصر الجمعة، "نفسي بس نصل نعدي الحدود وأشوف أراضينا لو مرة واحدة".

جريمة وتفاصيل

يروي حسونة -الذي نقل محمد لسيارات الإسعاف- لصحيفة "فلسطين" تفاصيل الجريمة الإسرائيلية، قائلا: "كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة والنصف مغرب الجمعة؛ جلست مع محمد بحفرة على بعد 300 متر من السياج الفاصل شرق مدينة غزة؛ كان الرصاص يطلق من بنادق جنود الاحتلال عشوائيًا، لم نستطع رفع رؤوسنا للأعلى من كثافة الرصاص".

"بدي أطل أشوف الجنود"، بمجرد ما قالها محمد لابن جيرانه، وما إن نهض قليلًا ليتكمن من العودة للخلف، كانت الرصاصة جاهزة، يواصل حسونة رواية ما جرى: "أصابت الرصاصة التي أطلقها قناص إسرائيلي رقبة محمد وأحدثت أربعة ثقوب فيها، سمعته يناديني باسمي ويقول: "ما تسيبنيش" وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة، فحملته وأوصلته إلى سيارة الإسعاف".

"نفسي أحكي لأمي إني بحبها قبل ما أموت".. هذا آخر ما قاله محمد لابن جيرانه، قبل أن تسكت أنفاسه وتتوقف نبضات قلب هذا الفتى الذي حلم بأن يعيش كباقي أطفال العالم.

الغياب الأخير

بالعودة إلى تفاصيل ما قبل المكالمة الهاتفية بين شقيق محمد ووالدته؛ يجلس ساهر على شبكة الانترنت يطالع آخر الأحداث، رأى صورة منتشرة لطفل شهيد شك بأن يكون شقيقه، فغادر البيت نحو مشفى الشفاء برفقة أحد أبناء الجيران، وهناك رأى شقيقه ممددا في ثلاجات الموتى والشهداء، جثة هامدة لم يدرك أن لحظات من الغياب عن المنزل ستكون للأبد، ولن يعود محمد إلى المنزل مرة أخرى إلا وهو محمول على الأكتاف يشيع شهيدًا.

بعد انتهاء الاتصال الأول.. مرت دقائق بطيئة على قلب الأم، عاودت الاتصال بابنها فأخبرها أن "شقيقه مصاب"، شاهر الذي أخفى على والدته الخبر أغمي عليه، ووالده الذي جاء متأخرًا ظل صامتًا يبكي قلبه من مرارة الحزن الذي سكن بيتهم، لم تستطع كل المحاولات إطالة إخفاء الخبر عن أم الشهيد التي علمت من الجيران أن ما كانت تخشاه حدث وأعدم ابنها الطفل برصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي.

حلم على الشاطئ

يقطر الحزن من صوت شقيقه: "اليوم سأفتقد صوته ولعبه ومزاحه معنا في المنزل.. ستفتقده أزقة مخيم الشاطئ؛ وسيفقده الجيران الذين كانوا يحبونه لطيبة قلبه وحبه مساعدة الآخرين، كان أخي محمد يذاكر ويستعد لتقديم امتحانات نهاية الفصل الدراسي الأول الاثنين القادم، وكان يقضي أغلب وقته في اللعب والمرح في البيت".

محمد الفتى الذي يسكن مخيم الشاطئ الملاصق للبحر، كتب حكاية أخرى مع البحر، ملاذه الذي كان يلجأ إليه، يقول شقيقه: "تعلق محمد بالبحر كثيرًا، فكان يوميًا يذهب للسباحة واللعب على رمال الشاطئ، كان يتمنى السفر ولو لمرة واحدة، يحب ارتداء الثياب الجديدة".

"هذه جريمة بشعة ارتكبها جنود الاحتلال الإسرائيلي بحق طفل، طالب بحقوقه الإنسانية –التي كفلتها القوانين الدولية- كأي طفل في العالم؛ أراد محمد إيصال رسالة بمشاركته بأن يعيش حياة كريمة كباقي الأطفال" وهذه المرة الكلام لعم الشهيد رامي جحجوح.

ويقول جحجوح لصحيفة "فلسطين": "لم تكن هذه أول جريمة ارتكبها الاحتلال، فهذه ضريبة ندفعها ثمنا لمطالبتنا بالحياة"، مطالبًا المنظمات الدولية بمحاسبة الاحتلال ومعاقبته على الجريمة وكل الجرائم التي يرتكبها بحق الأطفال الفلسطينيين أمام مرأى ومسمع من العالم.

"احنا رايحين فدا الوطن.. اذا احنا ما تحركناش مين بده يتحرك.. مشاركتي واجب هيك احنا تربينا" بهذا كان يرد محمد على أسئلة كثيرين عن سبب ودوافع مشاركته، عرف عنه كما يقول عمه طيبته، وعلاقاته الاجتماعية، فقد كان محبوبا لدى جميع أقاربه وأبناء حيه.

منذ انطلاق مسيرات العودة في 30 مارس/ آذار 2018م، ارتبط محمد بحب الأرض والمشاركة بالمسيرات، يذهب يوم الجمعة إلى الحدود الشرقية لمدينة غزة، ويوم الاثنين للحدود الشمالية الغربية بنقطة (زيكيم)، لم تمنعه أحلك الظروف عن المشاركة التي كان يعدها "واجبًا وطنيًا" رغم طفولته.