ما زال واقع الحياة السياسية في فلسطين يزداد تعقيدًا وكل محاولات استعادة اللحمة الوطنية لم تجد طريقها إلى النور، واقع أفرز ظروفًا قاسية أضرت بمشروعنا الوطني الفلسطيني في ظل استمرار حالة التفرد والإقصاء واستمرار العقوبات، وكانت آخر محطاته تهديدات الرئيس محمود عباس بحل المجلس التشريعي، والتي تعدّ تجاوزًا صريحًا ومباشرًا للقانون الأساسي الفلسطيني المعدل لعام 2003 وتعديلاته لعام 2005، وتغولًا للسلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية، وانتهاكًا واضحًا لمكانة المؤسسات القانونية والتشريعية في فلسطين، وتعديًا واضحًا لصلاحياته وحدود سلطاته.
فلا أجد في صلاحيات رئيس السلطة ما يمكن أن يسمح له باتخاذ مثل هذه الخطوة، بل إن المشرع حينما أعطى مساحة أوسع للرئيس في حالات الطوارئ والظروف الاستثنائية التي جاءت في حدود المادتين (43) و(110) لم يمنح هذه الصلاحية للرئيس، حرصًا من المشرع على الحفاظ على استقلال السلطة التشريعية وضمان عدم المساس بها، علمًا بأن الحكمة والغرض القانوني من إعطائه صلاحيات حين الطوارئ والضرورة جاء لتمكين السلطة التنفيذية من درء الخطر المحدق بالدولة والتي لا تشمل حل التشريعي.
إن مثل هذه الصلاحية لا يمكن بأي حال استنباطها بل يجب أن يكون هنا نص واضح وصريح ينص على إعطائه وتخويله هذه الصلاحيات قانونًا، ومن هنا كان لزامًا على الرئيس أن يراعي حدود صلاحياته التي وردت في القانون الأساسي الفلسطيني دون إحداث أي تعدٍّ من شأنه الإضرار بالسلطات الأخرى.
وليكن معلومًا لسيادته أن المجلس التشريعي الفلسطيني الحالي أفرز من خلال انتخابات عامة وحرة ومباشرة من الشعب الفلسطيني.
وبالرغم من ذلك فإن دعوة الرئيس ونيته تأتي ضمن المناكفة السياسية التي يمارسها في مواجهة القوى السياسية النشطة، واستمرارًا لنهج العقوبات المستمرة ضد شعبنا وأهلنا في قطاع غزة، ومن شأنه أن يعمق الانقسام السياسي الحاصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ويهدد وحدة وتماسك مؤسساتنا الوطنية، وينذر بتداعيات وردود فعل من الفصائل الفلسطينية ويلقي بظلاله على حراك المصالحة الجاري في الوقت الراهن.
بالإمكان القول، إن هذه الخطوة تصطدم بجدار الشرعية الدستورية، وتعدّ مخالفة دستورية خارجة عن إطار الشرعية ومستوجبة للإلغاء وعدم النفاذ؛ لأنها خالفت بشكل مباشر أيضًا المادة (38) والمادة (113) من القانون الأساسي الفلسطيني.
يبدو أن الرئيس محمود عباس ربما ينوي التسلح بوجود المحكمة الدستورية التي تم تشكيلها بمرسوم رئاسي عام 2016، وهنا أيضًا لنا مع المحكمة وقفة أخرى، كون المحكمة الدستورية أنشئت في أحوال وظروف غير قانونية لا تسعفها القيام بممارسة أي اختصاصات والتي منها المراقبة على أداء وعمل السلطة الفلسطينية وعمل المجلس التشريعي وأداء وتطبيق القوانين وفحص مدى دستوريتها، لكونها المرجعية الأولى والحاكم الفعلي في حال غياب الرئيس في كل الظروف والأحوال.
وتأتي إشكالات تشكيل المحكمة الدستورية في جملة من الأسباب خصوصًا أنه لم يتم مراعاة قانون إنشاء هذه المحكمة وهو القانون رقم (3) لسنة (2006) إضافة إلى أن المحكمة أنشئت في ظل حالة الانقسام السياسي والقضائي والتشريعي، إضافة إلى وجود عيب واضح في طريقة تعيين قضاة المحكمة في مخالفة واضحة للمادة (5) من قانون المحكمة الدستورية رقم (3) لسنة (2006) وقد غاب دور التشاور والتنسيب من قبل وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى.
واللافت أيضًا غياب تمثيل المرأة في تشكيل المحكمة وقصوره على الأعضاء الرجال، وهذا تراجع لمكانة المرأة الفلسطينية وإقصاء لدورها، ولا ننسى أن التوزيع الجغرافي لأعضاء المحكمة كان أيضًا معيبًا، حيث تم تعيين اثنين من القضاة من غزة من أصل تسعة قضاة، فالمحكمة أنشئت لأسباب سياسية هدفها التحايل على الظروف القائمة، وبكل تأكيد فهي بذلك تكون فقدت كل الأسباب والظروف القانونية والوطنية التي تسعفها لتكون محكمة مستقلة تتمتع بالحياد وتتسم بالنزاهة والشفافية والغطاء القانوني.
ومن نافلة القول أن نجد البعض يذكرنا بأن الرئيس يملك صلاحية إصدار مراسيم بقانون، فهذا يمكن إعماله وعدّه في حال كان وجود الرئيس دستوريًّا وخصوصًا في ظل انتهاء ولايته.
إن تصويب الأوضاع في الأراضي الفلسطينية لا يكون بحل المجلس التشريعي وإضعاف مؤسساتنا الوطنية والإسراع باتخاذ خطوات أحادية في ظل الانقسام وفقد الشرعيات، إنما يكون من خلال إعادة الحياة السياسية والدستورية والوطنية إلى قطارها الصحيح من خلال التوافق على إعلان انتخابات عامة رئاسية وتشريعية ومجلس وطني تمتد أيضًا إلى شراكة حقيقية في كل المؤسسات التي تمثل الشعب الفلسطيني والتي تكون مدخلًا لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية.