تحدثنا في الحلقة السابقة عن حكاية القرآن لأصل الصراع بين البشر وإبليس، وبيّنا كيف أن نصوص القرآن الكريم تحدثت عن هذا الصراع، وكيف أن رحمة الله تعالى اقتضت ألا يترك البشر لمواجهة إبليس دون سلاح يتقوون به على هذه المعركة المصيرية، وكيف أن الله تعالى قد بعث الأنبياء عليهم السلام ليبيّنوا للناس ما يتقون، وأنه لا خيارات لهم سوى اثنين، فإما أن يكون من جنود إبليس ويتبوؤوا النار معه، أو يكونوا أتباعاً للأنبياء وينزلوا منازلهم في الجنة.
وكان نتيجة هذا الصراع الصارم بين إبليس وأوليائه، والأنبياء وأتباعهم علو الحق تارة، وغلبة الباطل تارة أخرى، وخصوصاً في الفترات التي يتوقف فيها وحي السماء، ويتوفى الأنبياء، وقد اشتد ظلام الأرض بالكفر والطغيان، بعد وفاة المسيح عليه السلام، إلى ميلاد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو خاتم الأنبياء، من أجل ذلك كان لا بد أن يؤيد بمعجزة غير معجزات سائر الأنبياء، بمعجزة تبقى خالدة خلود الأرض والسماء، نبراساً وهدى لكل العالمين، لا يقوى إبليس على إبطالها، أو حتى يشكك الناس فيها، حيث جرّب مراراً أن يوحي لبعض الكذابين الادعاء بأنه قد أنزل عليهم مثل القرآن، فخاب، وخسر في هذه المنازلة، حيث لم يفلح أحد من أتباعه بشيء يوهم الناس فيه أنه قرآن كالذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، رغم ما اشتهر به العرب من الفصاحة واستقامة لسانهم على العربية.
هذا وقد خاض إبليس حرباً ضروساً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، وقد بلغت ذروة هذه الحرب حين جلس إبليس مع كبراء مكة في بيت الندوة على هيئة شيخ من نجد، يناقش معهم كيفية التخلص من محمد صلى الله عليه وسلم، بعدما فشلت كل أسلحة الفتك التي استخدمت ضد المسلمين ذلك الوقت، وكان هو عليه لعنة الله تعالى الذي دبّر لهم حيلة قتله، ورسم لهم خارطة الطريق التي بواسطتها يقضون على الإسلام، وفي هذه المرة كان الفشل حليفه أيضاً، حيث خرج النبي صلى الله عليه وسلم سالماً من بين الأربعين رجلا الذين استعدوا لقتله وفق خطة إبليس اللعين.
وكما هي سنة الكون فإن إبليس لم ييأس، وواصل عمله في الإضلال كما وعد ربه، ولكنه في المرة هذه قد غيّر خطته، حيث إنه علم أنه ما عاد قادراً عن صرف الناس عن الإسلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عصمه الله تعالى، فقد غيّر خطته واتبع أسلوباً آخر ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"، وهذا ديدنه اليوم، فسلاحه هو التحريش بين الناس، وإشعال الحروب، وإثارة النزعات والنعرات الطائفية، والفتن بين الشعوب المختلفة، وله في ذلك طرائق عديدة ومختلفة، وله أعوان قد سخروا أنفسهم لخدمته من المسلمين وغيرهم.
والناظر في حال المسلمين اليوم، يرى مدى صدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق، حيث المسلمون اليوم بأسهم بينهم شديد، فهم أحزاب متخالفون، وشِيَع متحاربون، يقتل بعضهم بعضاً، ويستقوي بعضهم على بعض، ناهيك عن تحرّش غير المسلمين بالمسلمين، ففي ميانمار يحرق عبّاد البقر المسلمين، والصين يحجر عليهم في عباداتهم وحتى في أسمائهم، وعند الروس يضيق عليهم.
هذا هو حال المسلمين؛ بل هذا هو حال البشرية، في عصر كشف الكون فيه عن حقيقة خلقه وتكوينه، وصرّح للناس بوضوح إعجاز الخلق فيه، وانتظام سمته، أنه لا إله إلا الله، وأن إبليس هو سيد الضلال، وهذا تماماً ما جاءت به معجزة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن يبدو أن السطوة اليوم للباطل، وأن الحق قد تراجع بعض الخطوات للوراء، كي يستجمع قواه وينقض على الباطل فيدمغه كما هي سنة هذا الكون.