قليلون سيكتبون، وقليل من قليل فقط يعرفون، وأكثر الناس ثقافة ومطالعة ومتابعة لن يأبهوا كثيرا للأمر، وربما يمرون على المعلومة أو الحدث مرورا عابرا لن يؤثر فيهم شيء.
حينما تعرفت إلى اسم نائل البرغوثي قبل عقد أو يزيد وراجعت سيرته ومسيرته جرت على لساني عبارة واحدة ما زلت أرددها كلما تحدثت عنه وهي أن أبا النور لا بواكي له، فهذا الرجل الذي أمضى أكثر من ثلثي عمره داخل الزنازين والمعتقلات يستحق منا الكثير ومع أنه لا يأبه بذلك كثيرا إلا أن ذلك واجب الحر للحر.
39 عاما مرت على اعتقال هذا الرجل الكبير والذي ليس من قبيل المصادفة أن يكون هو صاحب هذه التجربة التي لا يستطيع تحملها إلا الكبار والعظماء، فرجاحة عقله، وصوابية منهجه وفكره، وقوة تحمله وإرادته، والعنفوان الذي يحمله بجانب إرادته الفولاذية تدلل أن نائل البرغوثي ليس مجرد أسير فقط ولا حتى أسير أمضى هذه المدة الطويلة والخيالية لربما بل هو صنديد وأسطورة سيعجز التاريخ عن صياغتها كونه أقدم أسير في العالم وأكثر معتقل أمضى هذه المدة الكبيرة جدًّا.
نائل البرغوثي يمضي هذه السنوات بكل جسارة وبطولة ومن يعرفه يدرك جيدًا أن صلابته تجعله متجهزًا لأن يمضي أضعاف هذه المدة دون أن يتسلل اليأس إلى قلبه ودون أن ينقص حب فلسطين من قلبه شيئًا، بل على العكس تماما فالرجل مع الأيام يزداد قوة وتمسكا بحقه في الحرية كقوة إيمانه بحقنا في الانعتاق من هذا الاحتلال البغيض.
إن كان من وصية وأو رسالة فهي أن حياة هذا الرجل بكل تفاصيلها وبكل ما تحمل من جوانب مضيئة في شتى المجالات يجب أن تكون تجربة حاضرة لكل الناس من حولنا وللجيل الذي يقع على عاتقه الكثير في سبيل خلاصه من هذا المحتل المتغطرس؛ فلا يجوز أن يكون لدينا هذه التجربة ونحن عاجزون عن تقديرها أولا بما يليق بها، ثم إظهارها لكل العالم باللغة التي تناسبه ويفهمها.
إن مسيرة الكفاح التي بدأها الشعب الفلسطيني قبل عقود من الزمان تتشابك في كثير من محطاتها مع تضحيات هذا الرجل الأشم، فاعتقاله الأول عام 1978 أي قبل اندلاع أحداث الانتفاضة الأولى "انتفاضة الحجارة" بحوالي تسعة أعوام، وبعد انتهاء هزيمة النكسة عام 1967 بقرابة عشرة أعوام يعطي لنا إشارة واضحة بأن هذا النفس الثائر لم يركن يوما إلى محتل بل واصل كفاحه ونضاله بكل بسالة وجرأة في وقت خفت فيه صوت الرصاص وكانت مشاريع التسوية قد بدت تشق طريقها في السر والخفاء.
أفرج عن أبي النور نائل البرغوثي في صفقة وفاء الأحرار بعد أن أمضى وقتها 34 عاما قبل أن يعيد الاحتلال اعتقاله مرة أخرى بعد أشهر من الإفراج عنه ويعيد الحكم السابق بحقه وها هو اليوم يواصل مسيرته داخل الأسر ليدخل عامه التاسع والثلاثين، فما لانت له قناة ولا فترت له عزيمة.
لقد بات من الواجب على الأجيال أن تتذاكر هذه السيرة المكللة بالبطولة والفداء، وحق لكل فلسطيني وعربي أن يفخر بهذه التضحية وأن يعلي من شأنها وأن يجعلها حاضرة في كل المواقع والميادين وأن يعمل على نشرها وبيان قيمتها لكل الشعوب في العالم لبيان مدى ظلم هذا الاحتلال وجبروته.
الحديث عن أبي النور ربما يطول ويطول ولا نكاد نملك جوانبه لأننا بالفعل أمام أيقونة وطنية غير مسبوقة في التضحية والفداء والصبر، هذه الأيقونة التي تعد منارة لكل فلسطيني وعربي وحر في هذا العالم تملي علينا القيام بالكثير وفق تخصصاتنا المختلفة لأجل ألا يظن الاحتلال أنه استطاع النيل من رموز قضيتنا وحتى يكون تحركنا شاهدًا على جريمة الاحتلال بحق كل مكونات الحركة الأسيرة والتي يأتي على مقدمتها هذا الرجل الأشم.