وتستمر غزة في خلق حالة من أروع حالات الاستثناءات؛ فهي المنطقة الجغرافية التي تفتح نيران بنادقها تجاه العدو الصهيوني، متى اقترب منها، عكس عواصم عربية كبيرة ترقص أمامهم على إيقاع النشيد الوطني الصهيوني، وهي التي ترفض الاعتراف بالقاتل والمغتصب من أجل كسرة خبز يكسر بها عينيها، بل هي التي فقأت عين العدو بمقاومتها النوعية كما اعترف العدو بذلك أكثر من مرة، وهي التي ترفع شعار: "تموت الحرة ولا تأكل بثدييها".
أحدث أنواع الاستثناءات وأروعها ظهر في غرفة العمليات المشتركة التي تعد وزارة دفاع رائعة تشترك فيها أجنحة المقاومة وتتابع الوضع من كثب، وتضع لمساتها الموسومة بالرغبة في تلقين العدو الدرس تلو الدرس، والمعطرة بالتجربة العميقة في التعامل مع العدو، لتنغص عليه خططه وعملياته.
ولدت هذه الغرفة من رحم الرغبة الجماعية في قيادة السفينة برؤية وطنية واحدة تقوم على تلاقح الأفكار، حيث يضع كل ذي فكرة فكرته أمام الجميع، فيتشاورن في طريقة التعامل مع العدو كمًّا وكيفًا، بطرق تأخذ في الحسبان ظروف الزمان والمكان داخليًّا وخارجيًّا دون أن تتهاون مع العدو.
إن مبدأ غرفة العمليات المشتركة هو تطبيق عملي لمنهج قرآني رائع يتمثل في قول الله (عز وجل): "وأمرهم شورى بينهم"، "وشاورهم في الأمر"؛ فهذه آيات قرآنية لم يقلها ربنا عبثًا، بل إن لها مفعولًا رائعًا، لو مارسناها على أصولها؛ فالعمل بالشورى قربة وطاعة لله (عز وجل)، وفيها تتلاقح الأفكار, وتتكامل الثقة, وتبادل الخبرة والاطلاع على ما عند الآخرين, والاستفادة من الخبرات المتنوعة، ويشعر المشاركون بالمسؤولية وأنهم مع المسؤول ويسعون إلى تحقيق المصالح العامة, ودرء المفاسد في عملية تكاملية، وتعمل على تكامل المعرفة النظرية والعملية، وتجاوز الخطوب التي تشل التفكير الفردي والحزبي، وتسدد النظر إلى المشكلة من زوايا متباينة، وهنا يقول الشاعر: تأبى الرماح اذا اجتمعن تكسرًا .. وإذا افترقن تكسرت آحادا.
إن النجاح الذي أظهرته غرفة العمليات المشتركة رغم الظروف الصعبة التي تعمل بها لهو جدير بالدعوة إلى تأسيس غرفة عمليات سياسية مشتركة تقود المرحلة الحالية على قاعدة "إن الوطن أنا وأنت، وليس أنا أو أنت"، وعلى قاعدة "شركاء في المسير شركاء في المصير"، دون أن ينفرد طرف بقيادة السفينة تحت ذرائع واهية أكل عليها الدهر وشرب، ويؤكد أيضًا إمكانية نجاح أي تنسيق فلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني، لو توافرت النيات.
إن غرفة العمليات المشتركة القائمة على التنسيق الأمني والعسكري بين فصائل المقاومة هي أكثر نبلًا وأخلاقًا ووطنية من غرفة العمليات المشتركة التي تجمع أجهزة السلطة مع الاحتلال الصهيوني، من أجل إحباط روح المقاومة والجهاد في الضفة الغربية.