فلسطين أون لاين

​تمنّت أن يُبنى مسجد بجوار بيتها.. فهل تحقّقت أمنيتها؟

بالصور: "إيمان أبو صبحة".. الإعاقة ليست في الجسد

...
يمان أبو صبحة
غزة- يحيى اليعقوبي:

هي فتاة من ذوي "الاحتياجات الخاصة" ولدت تعاني ضمورًا وإعاقة حركية ونقصًا في "الكالسيوم" وهشاشة بالعظام؛ تحدت المعاناة والألم، وسارت بين الأشواك، حتى أصبحت فاعلة في المجتمع، لترسخ مبدأ أن الإعاقة الحقيقية ليست في الجسد، وأنه لا مستحيل عند أصحاب الإرادة.

ما بين طفولة إيمان أبو صبحة (32 عاما) من محافظة خان يونس، وإلى أن أصبحت محفظة للقرآن الكريم، محطات ومراحل ومواقف، كانت مثل الرياح العاصفة تحاول كسرها وتحطيم إرادتها، فكانت مثل شجرة النخيل، إن انحنت مع رياح الألم لحظة هبوبها تعود ثابتة تواصل مسيرتها.

خطت إيمان حياة طفولتها؛ تواجه صعوبات ومعاناة وألم، لا يوجهها كثيرون غيرها، التحقت بمدارس "ابتدائية" عادية غير مؤهلة لاستيعاب ذوي الاحتياجات الخاصة، كي لا تشعر بالنقص، كل يوم وطوال أيام الدراسة تذهب على كرسيها المتحرك بمساعدة إخوتها، من ثم يقوم أساتذتها بحملها وطي كرسيها حينما يكون فصلها بالطوابق العلوية في المدرسة، ويتكرر هذا المشهد يوميًا، ومعه تستمر المعاناة.

ولأن إيمان طفلة تحب اللعب مع إخوتها وأطفال عائلتها، دائمًا تتعرض للكسر والإصابة، ويختلط الحزن بالمرارة مستذكرة تلك الفترة في حديثها مع صحيفة "فلسطين": "كنت أقضي أسبوعًا دون جبيرة، والأسبوع الآخر تتعرض يدي للكسور، إذا شدها شخص".

موقف جارح

في يوم من أيام دراستها، تقدم إيمان اختبارها المدرسي، يدها اليمنى مكسورة ومنتفخة، لكن صاحبة الإرادة القوية قررت خوض امتحان الإرادة قبل الورق، ذهبت للامتحان متحملة الألم لأجل العلم، تجيب على الأسئلة بيدها اليسرى.

بجوارها تقف معلمتان تتهامس إحداهن للأخرى: "ليش هاي البنت دايما ايدها ملفوفة؟، سمعت إيمان الكلام، لكن تلك المدرسة لم تنته من حديثها: "معقول دايمًا بتكون ملفوفة بس عند الامتحان؟"، جرح الكلام قلب إيمان لكنها كتمته به، "رغم أنك مجروح وتتعرض للكسور بشكل لا يصدقه أي انسان، ومتحمل المعاناة تجد من لا يرحمك فيه" تقول.

أمام صبرها على الألم اتخذت قرارًا مصيريًا: "لم أرد أن أكون عالة على المجتمع، وأن أحمل الآخرين مشقة حملي وإنزالي والسير بي من وإلى المدرسة، لذا قررت في الصف السادس الابتدائي ترك المدرسة"، وهكذا انتقلت لمرحلة أخرى.

وأخيرًا .. "تحقّقت الأمنية"

صعبة هي الحياة، حينما تكون مليئة بالفراغ، تجلس طوال الوقت داخل البيت، تحدت إيمان الفراغ بقراءة القصص ومشاهدة التلفاز، وفي الوقت نفسه كانت دائمًا تدعو الله أن يحقق أمنيتها ويتم بناء مسجد بجوار بيتها، بعد عدة سنوات على هذا الحال بلغت إيمان سن عشرين عامًا، لكن حدث ما لم تتوقعه؛ تحققت أمنيتها وبني مسجد قريب من بيتها كما تمنت لا يبعد أكثر من 100 متر.

"إثبات الوجود" .. شعار رفعته وقررت عدم خسارته، بعدما "خسرت مسيرتها التعليمية"، بدأت بحفظ القرآن الكريم في المسجد المجاور لبيتها، بمعدل نصف صفحة من القرآن يوميًا، تستغرق بحفظها ساعة واحدة، تعجبت محفظتها من قدرتها على الحفظ، تكمل: "لقنتني المحفظة التجويد، ومن ثم بدأت بحفظ صفحة كاملة، ومن ثم صفحتين يوميًا".

مر عامان على هذا الحال، "شوفوا إيمان كيف حفظها؟ .. تعلموا منها" مرارًا وتكرارًا توجه المحفظة الكلام السابق لطالباتها في حلقة التحفيظ، وهكذا أصبحت إرادة إيمان يضرب بها المثل، أتمت حفظ 27 جزءًا من القرآن في غضون عامين، لكن محفظتها مرضت، تزامن ذلك مع اجازة الطلاب "الصيفية"؛ وبدء مخيمات "تاج الوقار"، فماذا فعلت إيمان؟

تواصل: "انخرطت بالمخيمات، وحفظت أربع صفحات يوميًا وأتممت خلال الأشهر الثلاثة حفظ القرآن كاملا عام 2008م"، وهي لا تنسى معاناة أشقائها معها في إيصالها للمسجد وإعادتها للبيت، كون ذلك الكرسي لم يكن كهربائيًا.

"خيركم من تعلم القرآن وعلمه" تطبيق هذا الحديث النبوي هو هدف إيمان، في المرحلة القادمة من حياتها، بادرت بطلب لإدارة المسجد بأن يخصصوا لها حلقة لتحفظيها، عام 2010م أعلنت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية عن مسابقة في حفظ خمسة أجزاء من القرآن على مستوى القطاع، لاختيار محفّظين بعقود دائمة، استعدت إيمان لها، وتخطت التصفيات الثلاثة.

الأولى على القطاع

في المرحلة الأخيرة، جلس شخص يسمع لها (لم تعرفه) بعدما انتهت سألها: "بتعرفي مين أنا يا إيمان؟"، أجابته: "لا"، فعرف عن نفسه بأنه وكيل الوزارة، سألها مرة أخرى: "تتوقعي شو أخدتي؟"، نظرت إليه بثقة "الأولى"، أدهش توقعها اللجنة، "كيف عرفتي النتيجة؟" سؤال بصوت المندهش صدر من أحدهم، فقالت له: "رأتني والدتي في المنام أنني حصلت على المرتبة الأولى وتوظفت"، وبالفعل حدث ذلك وحصلت على "بطالة" دائمة.

"حياتي بعد حفظ القرآن اختلفت وبدأت تخطي المعاناة" تقول؛ تبرع لها الأسرى في سجون الاحتلال قبل ثماني سنوات بكرسي متحرك كهربائي، تخلصت من "إرهاق إخوتها" في دفع عربتها، فأصبحت تذهب للمسجد لوحدها، وإلى السوق، ثم تبرع لها فاعل خير قطري ببناء بيت لها بجوار منزل عائلتها بمساحة 63 مترًا مربعًا ملائم لوضعها.

ولأن "الإنسان طبيب نفسه" أشرفت إيمان على رسم خريطة منزلها بنفسها، أمام البيت صممت مسارًا للكرسي المتحرك بديلا عن الدرج، ومن ثم مصفًا لكرسيها أمام باب البيت، وجعلت كل شيء يتناسب مع وضعها، ربطت النوافذ بسلاسل كي تستطيع فتحها وإغلاقها وهي تجلس على الأرض.

بداية صعبة

بالعودة، إلى حلقات القرآن الكريم، في بدايتها كانت الطالبات يأخذن الأمر بشيء من عدم الجدية، لكن إيمان اتبعت أسلوبًا يتناسب مع طفولتهن، قائلة: "بدأت بإمساك العصا من المنتصف، لم أكن لينة كثيرًا ولا شديدة .. بدأت بنقل العلم لهن والتسميع لهن".

يوميًا وبعد أذان الظهر، تمضي إيمان أربع ساعات في تحفيظ القرآن الكريم، اليوم يبلغ عدد الطالبات في حلقتها في الأيام العادية 15-30 حافظة، وفي الإجازة 60 حافظة من مختلف المراحل العمرية، خرّجت ثلاث حافظات للقرآن الكريم.

تجلس بكرسيها أمام الطالبات وقبل بدء موعد الحلقة تقول في نهاية حديثها: "أصارح طالباتي بكل شيء، دائما قبل أن انصحهن بالابتعاد عن السلبيات، أبدأ بنفسي وأرى أخلاقي كي تنعكس عليهن، أقوم بالتفريغ النفسي أحيانًا في نهاية الحلقة، ومصارحتهن، واليوم يحبونني كثيرًا، بعض الفتيات بدأت معهن من الطفولة إلى أن أصبحن في الجامعات".

آخر شيء تمنته إيمان هو أداء فريضة الحج، ذات يوم يحدثها والدها محاولًا تغيير الأمنية نظرًا لصعوبتها "إيمان؛ إذا رحتي على الحج حتموتي هناك" أطلعها على تفاصيل معاناة الحجاج "من يذهب على قدميه يعودون مرضى من هناك.. وسفر، وتعب، وطواف"، لكنها كانت تتوجه إلى الله بالدعاء كي تتحقق تلك الأمنية، وقبل خمس سنوات أدت فريضة الحج، وتيسرت أمورها في كل شيء، وحققت آخر طموحها.

وبهذا نسدل الستار على قصة هذه الفتاة المتحدية، فأمام أصحاب الإرادة يصبح المستحيل ممكنًا.