يثور في أذهاننا نحن الفلسطينيين تساؤل مشروع: هل تدرك قيادة الشعب الفلسطيني ونخبته السياسية والوطنية المخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية؟ إذا كانت الإجابة عن هذا التساؤل إيجاباً فإنه يثور تساؤلٌ آخر لا يقل أهمية عن الأول: لماذا لا تزال أزمة المصالحة الوطنية تراوح مكانها منذ أكثر من أحد عشر عاماً؟ وما هي العقبات الحقيقية التي تحول دون إنجازها؟ وإذا كانت مسألة الوحدة الوطنية والكفاحية من بديهيات عملية التحرر الوطني، لماذا تعجز هذه القيادة بوصفها قيادة تحرر وطني عن الاتفاق على أساسيات هذه الوحدة؟
وبعيداً عن الشروع في توصيف المخاطر الكبيرة التي تحدق بالقضية الفلسطينية فنحن ندركها جميعاً، على أي حال تكفي الإشارة إلى المشروع التصفوي المتمثل بصفقة القرن كي يستدعي الشروع فوراً في عملية المصالحة وتجسيد الوحدة الوطنية وتجاوز العقبات التي تحول دون إنجازها، ولكن على ما يبدو أن هنالك خللا كبيرا في كيفية إدارة العلاقات الفلسطينية الداخلية، وهذا يعكس مدى تعمق الأزمة الفلسطينية، فهذه الأزمة غير مسبوقة في تاريخ الثورة الفلسطينية رغم أن الخلافات السياسية في العقود السابقة كانت أعمق بكثير من الأزمة الراهنة إلا أنه كان يجري المسارعة إلى تذليل العقبات واستدعاء الوحدة الوطنية كصمام أمان وكعنوانٍ يعكس مصداقية ومشروعية نضالنا الوطني لأن القيادات السابقة ربما كانت أكثر نضجاً ومسئولية وكانت المصلحة الوطنية عندها فوق الاعتبارات الحزبية والشخصية.
ونحن ندرك أنه ليس بمقدورنا مواجهة المشروع الاحتلالي الصهيوني دون وحدة وطنية وكفاحية فلماذا تستعصي هذه الأزمة على الحل؟ وهل أصبحت مسألة تمكين الحكومة أهم من الاستيطان والقدس واللاجئين، أما الشعار الذي ترفعه قيادة السلطة المتمثل بالقانون الواحد والسلاح الواحد والسلطة الواحدة فهو شعارٌ لا معنى له، ويبقى شعاراً سيريالياً ومضحكاً وكأنه باتت لدينا دولة قائمة بينما ننسى أننا جميعاً تحت مقصلة الاحتلال، فلا سيادة ولا سلطة ولا قانون ولا كرامة وطنية في ظل الاحتلال فالاحتلال لا يحترم سيادة السلطة ولا قانونها ولا مسمياتها ورموزها أما سلاحها فلا يرى فيه الاحتلال الصهيوني سوى أنه سلاح لحماية أمنها وأن الأجهزة الأمنية مجرد وكيل أمني في خدمة الاحتلال، وقيادة السلطة ذاتها تشكو من الانتهاك اليومي لسيادتها وقانونها وأراضيها ورموزها من جانب الاحتلال.
فقيادة الشعب الفلسطيني بسلطته ومنظمته وفصائله تدرك أنه لن يكون بمقدورها مواجهة الاحتلال ومجابهة صفقة القرن دون الاتفاق على برنامج وطني سياسي كفاحي موحد، كما يدرك طرفا الصراع الحمساوي الفتحاوي أن الوحدة الوطنية هي ممرٌ إجباري لإنجاز الحقوق الوطنية الفلسطينية، ويدرك الجميع أنه ليس بمقدور فصيل بعينه مجابهة مشروع صفقة القرن بمفرده، وأنه يتعين تحشيد الطاقات والجهود الفلسطينية في الداخل والخارج حتى يكون بمقدورنا بناء اصطفاف عربي ودولي لمواجهة هذا المشروع ومحاصرته ونحن نعي جيداً أنه لن يساعدنا أحد ما لم نساعد أنفسنا، وإلا فإن العرب والعالم سيتذرعون بضعفنا وقلة حيلتنا وانقسامنا ولن يحترم أحد نضالنا وتضحياتنا ما لم نحترم نحن أنفسنا ولا نبدد تضحيات شعبنا.
وقد يتشدق البعض بالقول إنه لا ينبغي التقليل من أهمية الخلافات السياسية القائمة التي تحول دون إنجاز المصالحة، ونحن نقول إنها ذرائع وليست خلافات وهذه الذرائع تعكس غياب الإرادة الحقيقية من جانب السلطة وعدم جديتها في تجاوز الأزمة الراهنة فعندما تصبح المخاطر المحدقة ذات طبيعة وجودية تمس واقع ومستقبل الشعب الفلسطيني، فإن ذلك يقتضي تجاوز أي خلافات داخلية مهما كانت والعودة إلى مربع الإجماع الوطني والتمترس خلف الثوابت الوطنية.
لقد تجاوزت السلطة الفلسطينية الخطوط الحمراء في كيفية إدارة العلاقات الوطنية، ومعالجة الخلافات السياسية، وفرضها العقوبات على قطاع غزة، والتلويح بفرض المزيد منها، وهي سابقة في تاريخ ونضالات حركات التحرر الوطني، ومن السخرية أن حكومة الاحتلال باتت تدّعي أن "أبو مازن" هو المسؤول عن أزمة قطاع غزة، وأن سياساته ستكون سبباً في اندلاع الحرب، وبهذا يخلي الاحتلال أي مسئولية له عن مأساة أهلنا في قطاع غزة ويحملها للسلطة ورئيسها.
لقد دخلت العلاقات الوطنية الفلسطينية الداخلية منعطفاً خطيراً وغير مسبوق، ويتحمل مجمل الحركة الوطنية الفلسطينية المسئولية عن هذا التردي القائم، فقد آن الأوان لإعلاء الصوت عالياً وعدم الاختباء وراء المجاملات وأنصاف الحقائق والإمساك بالعصا من منتصفها، فالمرحلة الحالية تحتاج إلى جرأة ومكاشفة ومصارحة والتشهير بأي طرفٍ يعطل المصالحة وتجسيد الوحدة، فهي ضرورة وليست خياراً، بل هي ممر إجباري لأي حركة تحرر وطني تسعى للتصدي لمهامها التاريخية ومجابهة التحديات وإنجاز الحقوق التي تعهدت باستعادتها.