فلسطين أون لاين

دعاء النونو تروي لـ "فلسطين" رحلة "غربة"تُغيِّر مسارها

في "جزيرة الموت".. حلمٌ سقط في قاع "البحيرة"

...
غزة - يحيى اليعقوبي

كيف رحلت وأنت الـشخص الوحيد الذي يغنيني عن العالم؟ كنت نافذتي إلى الحياة، هل تعلم عدد الساعات التي بكيت فيها بعدك، وزيارتك لي في المنام.. طيفك، وجهك، صورتك، كلامك، ابتسامتك؟ هل تعلم كم مرة أرهقني الأرق؟ أتعرف ذلك الثقب في قلبي الذي اخترقه الحزن للأبد؟ كل شيء تغير.. لو كان لعقارب الساعة أن تعود للخلف لأعدتها حتى لا يحدث المشهد الذي أبعدني عنك وهو يتكرر كل يوم ولا أستطيع الهروب منه، صوت الموج يئن في أذني، يفترش ذاكرتي، لم أنس تلك الرحلة التي عنونتها بـ"رحلة الموت"، كيف أحدثك عن دموعي التي تشكلت منها بحور ألم؟

هو خطاب بين روح عاشت في قلبين وجسدين كل منهما يأخذ بيد الآخر، عبرا طريقًا مفروشًا بالشوك، لم ينحنيا أمام "العواصف العاتية"، يسيران نحو حلميهما.. محمد النونو (31 عاما) وزوجته دعاء (27 عاما) وابنتهما إيلين (عامان ونصف العام)، من سكان مدينة غزة، سافرا لإكمال الدراسات العليا في الخارج، سمعا عن رحلة "الموت"، عن قسوة المهربين، عن موت المسافرين، لكن أن تعيش التجربة ليس كما تسمع عنها، ما أصعب تلك اللحظات التي تسرد فيها تفاصيل حكاية مغلفة بالتضحية، مليئة بالوجع.

بداية القصة.. على أعتاب تموز/ يوليو 2017م، قرر محمد ودعاء الخروج للسفر من غزة لبلاد أوروبا، الأول الذي درس المحاسبة وعمل بمديرية التربية والتعليم بغزة يريد افتتاح مشروع، والثانية تريد إكمال دراساتها العليا في الصحافة والإعلام، بعد اتخاذ القرار، انتظرا ثمانية أشهر لاجتياز معبر رفح، الذي لطالما أغلقت أبوابه في وجه أهالي القطاع، وانتهت على عتباته أحلام طلبة بالدراسة ومرضى بالعلاج، وحرمانه لآخرين من رؤية عائلاتهم لسنوات.

أمام الانتظار، انتهت فيزا السفر الأولى، بهدوءٍ تتسلل الكلمات الحزينة من دعاء بعد أن أذابها الألم، فتبدأ بسرد أصعب محطةٍ أليمة في حياتها عثرت عليها في السطر الأول من فصل الحنين، وهي تعيد نسج القصة من جديد وترويها لصحيفة "فلسطين": "لم نخرج من غزة هربًا من الأوضاع الصعبة، حب غزة في قلوبنا أكبر من ذلك، كل بلاد العالم لن تكون حنونًا عليك مثل بلدك، فيكفي هواها، وبحرها، وسماها، في كل مدينة وشارع وسوق في غزة لي مع محمد ذكريات (...) بقينا مترددين بالسفر أم لا حتى آخر لحظة".

- توصلنا لقرار أننا سنعود لوظائفنا لأن هناك عملا وحياة وأهلا يحبوننا ونحبهم ينتظرونا في غزة، وأننا سنعود لننفع غزة في يوم من الأيام.

يوم السفر حان، تجاوز الزوجان معبر رفح كـ "ترحيل"، أمضوا ليلة صعبة بمطار القاهرة، وفي اليوم التالي وصلا تركيا ونزلا بمدينة إسطنبول، يخير محمد زوجته.. "بدك تدرسي بتركيا ونفتح مشروع ولا نسافر لأوروبا"، "كما تريد" بها ردت دعاء، لكن الزوجين بعد ذلك لم يتقبلا تركيا، نظرا لصعوبة العمل والحصول على منحة وغلاء الدراسة.

- تركبي البحر يا دعاء؟..

طلب صعب عرضه محمد على زوجته بعد مضي 40 يومًا على مكوثهم في تركيا.

- يا بنعيش مع بعض وبكون سعيدة أو بنموت مع بعض وأجمل موتة أنا وياك بنفس اللحظة.

قارب مكسر.. ورحلة في الظلام

كان القرار صعبًا، لأن السفر من مدينة أزمير بتركيا إلى اليونان يحتاج للسفر عبر البحر من خلال المهربين، لكن لا مفر إلا خوض هذا الغمار الصعب.. الساعة 11 ليلا لحظة وصول الزوجين لنقطة التهريب، بكت دعاء، وتوسلت المهرب لمساعدتهم، "حطلعك رحلة مرتبة"، وعدها بذلك، لم تدرك أن ما قصده سيكون "رحلة موت".

لا تستطيع نسيان صوت الموج، أصبح هذا الصوت كلما تذكرته يسبب لها الخوف والتوتر، صعدا على قارب منفوخ أرضيته خشب مكسر حمل 22 شخصا و8 أطفال، بدأ تأنيب الضمير يسيطر على قلب دعاء خوفا على ابنتها "إيلين".

- خلص صرنا واصلين وهذه رحلة سنكملها لهدفنا.

محمد يحاول تهوين الرحلة على زوجته.. في 12 تموز/ يوليو 2018م انطلق القارب وانطلقت رحلة عذاب بين أمواج البحر المتلاطمة، تعيش دعاء المشهد مرة أخرى، وبدا الخوف في صوتها.. "طوال الطريق كنا نشعر برعب وخوف من انقلاب القارب، كانت المياه تدخل إليه في الظلام وتصل إلى ركبنا".

بعد 25 دقيقة من المسير في البحر، وسط عتمة الظلام وسكون الموج، لا يوجد حل أمام المسافرين سوى الدعاء، يخشون تكرار حوادث الغرق وانقلاب المركب كحال مراكب مهاجرين كثيرة غرقت وغرقت معها أحلامهم وانتهت أعمارهم في قاع البحر، "هل هناك شخص فلسطيني معنا؟"، يستفسر أحد المسافرين، ومعظمهم كانوا من العراق وسوريا والسودان وبلاد أخرى، أشار محمد وزوجته، طلب منهم الدعاء بالنجاة كونهم من أرض رباط، بعد دقائق عدة لحسن حظهم حضرت قوات خفر السواحل بواسطة باخرة ونقلتهم إلى جزيرة "كيوس" اليونانية.

جزيرة "الموت".. و"كابون" الانتظار

كامب بفيان بجزيرة كيوس؛ تعني المعاناة.. وصل الزوجان الجزيرة هربًا من موت البحر، كانا يعتقدان "أن أبسط شيء متوفر.. بأنك ستدخل إلى مخيم لاجئين فيه أمان لك ولأولادك" اعتقاد دعاء كان خطأ، فالواقع مختلف تمامًا، ما زال الحزن في صوتها، ولو عاد بها الزمن لما سافرت لهذه الجزيرة "لحظة وصولنا للجزيرة أعطتنا السلطات اليونانية بطانية وحصيرة لننام أينما نريد، على الطريق، أو تحت شجرة، حولك عقارب وأفاعٍ وحشرات وناموس؛ منطقة كلها رعب وخوف وقلق كان الأمر صعبًا".

دلهم أحد الأشخاص على مكان تجمع اللاجئين الفلسطينيين، كانوا يعيشون بخيام وغرف خشبية، تلتفت دعاء للمكان "المخيف" حولها، وتستذكر شقتها الجميلة في غزة، تنظر لزوجها "حنام هان؟"، لا خيار غيره؛ وضعا أمتعتهما بين الأشجار، وحولهما أصوات الحشرات من كل جانب وقررا المبيت حتى شروق الشمس لإيجاد خيمة.

بالصدفة شاهدتهم مجموعة من الشباب من عائلتي "أبو زهري، والمصري" من سكان قطاع غزة، وآثروا مبيت الزوجين في غرفتهم، ونام الشباب في الخارج، وفي صباح اليوم التالي، وما إن أطلت الشمس بخيوطها الذهبية غادر محمد مع زوجته الغرفة بحثًا عن خيمة، في موقف يظهر تلاحم أبناء الشعب الواحد.. غضب هؤلاء الشباب حرصًا على الزوجين فجلبوا خيمة لهما، وبدأت قصة صداقتهم مع محمد.

في جزيرة "كيوس" لم يكن محمد وزوجته وحدهما، فمعهما كان قرابة 2500 مهاجر من بلاد مختلفة، تخيل أن هذا العدد يوزع عليه الطعام بنفس اللحظة، كي يحصل كل فرد على زجاجة مياه صالحة للشرب، أو بسكويت، أو طعام الغداء، يجب عليه الاصطفاف في طابور "الكابون"، بعضهم يستيقظ من الفجر حتى يستلمها الساعة الثامنة صباحًا، حمام جماعي، خيام قليلة، هذا هو مشهد الجزيرة.

"شر البلية ما يضحك" يجلس الزوجان في أول يوم لها بالخيمة.

- (محمد) ينظر لدعاء: ليش قاعدين بخيمة تعالي نعمل الها بلكونة.

- (دعاء) تبادله السخرية على حالهما: لكن شرط أن تطل البلكونة على شجر ومنظر طبيعي.

جلب محمد مجموعة من ورق الكرتون والحصر والقماش وعمل تلك البلكونة ليعاود محمد السخرية من الواقع هنا فتح ذراعيه وأعلى صوته..

- الناس مش عجباهم غزة؛ سايبين غزة عشان نقعد بخيمة.

اتجه بنظره إلى زوجته حزينًا..

- حاسس بتأنيب الضمير أني طلّعتك من غزة.

ماذا أقول؟ "كنا نتذكر غزة كل يوم، نشتاق إلى رمل غزة، حتى وجعها كنا نشتاق له، كنا ندافع عن ذلك الوجع من حبنا وعشقنا لها، لأنها بلدي رملها احتوانا وناسها ضمونا، بعيدًا عن ضغوطات الحياة، كان تخطيطي دعم غزة إعلاميًّا بأوروبا" هذا كان تخطيطهما.

"بحيرة" أم نقطة تجمع مطر..؟

الخامس من آب/ أغسطس 2018م في صباح صامت في جزيرة كيوس، بدا كل شيء هادئا، لكن قلب دعاء بمجرد أن استيقظت كان "مقبوضًا" تلتفت إلى محمد.. "والله منا عارفة ليش قلبي مقبوض، هو الآخر لا يعلم سر هذا الاضطراب الداخلي لدى زوجته "أنت تحملتِ عيشة ما حدا بتحملها.. عيشة الكامب والجزيرة صعبة"، لكن ما تشعر به دعاء ليس له علاقة بمصاعب الحياة في الجزيرة "كنت أعد وجود محمد بجانبي بخيمة كأنني ملكت الدنيا، لو على الخبزة والملح".

- والله لطششك اليوم وبتروقي يا دعاء..

- بدنا نروح مدينة جزيرة كيوس نطلع من جو الكامب

يحاول محمد بما سبق إخراج زوجته من أجواء الجزيرة الصعبة التي وصلوا إليها، بعد رحلة غربة بدأت من غزة ثم تركيا، ومرورا بالبحر حتى وصلوا جزيرة "كيوس" باليونان، تنقلت معهما أحلامهما وأمانيهما، بجوار خيمتهما كانت خيمة أصدقاء محمد من عائلتي المصري وأبو زهري الذين تعرف عليهم خلال وجوده بالجزيرة، "شو رأيك تروح معنا البحيرة؟"، أحدهم يحدث محمد، الذي بدوره خيّر زوجته إما الذهاب للمدينة أم للبحيرة، لكنه استجاب في النهاية لإصرار الشباب على الذهاب للبحيرة بعد أن "استمتعوا بالسباحة فيها برحلة سابقة".

كان يومًا غريبًا، أحد هؤلاء الشباب لم يستطع إخفاء ما يدور بداخله "مش عارف ليش قلبي مقبوض"، وشاب آخر يتساءل: "احنا ضروري نروح"، ليجيبه صديقه "بدنا نطلع من الكامب زهقنا"، بالنسبة لمحمد كانت الحياة بالجزيرة أصعب من الحياة بغزة، كانت تبعد البحيرة عن مخيم اللاجئين مسير نصف ساعة، انطلق محمد وزوجته وأصدقاؤه الثمانية الذين تعرف عليهم، وقد ضلوا الطريق بين الأشجار، لكنهم في النهاية وجدوا البحيرة بعد ساعة من الانطلاق.

وصل الجميع البحيرة الساعة السادسة مساءً، لم تكن دعاء مرتاحة من الأجواء، الأرض من حولها طينية غريبة، نحل، حشرات، حشائش هكذا كان المشهد، بقيت واقفة طوال الوقت تمشي بخطواتها للأمام وللخلف، لا تعرف ما السبب الذي يدفعها لذلك، حتى لفتت انتباه زوجها "دعاء.. مالك؟ أنا جايبك عشان تنبسطي"، ردت عليه "خلص فوتوا البحيرة".

انطلق محمد وأصدقاؤه وأخذ ابنته إيلين "عامين ونصف العام"، كانت دعاء تصور المكان حتى ترسل الفيديو لعائلتيهما، يحاولان طمأنتهما وأنهما يعيشان بسعادة مع أن الواقع مختلف تمامًا، وبعد خمس دقائق أخرج محمد طفلته نظرًا لبرودة المياه.

قبل عودة محمد للبحيرة تناديه زوجته:

- خلص تسبحش خليك سليني عشان الحشرات

التفت إليها وهو يتجه بنظره نحو المياه..

- لا لا، خليني ألعب شوي مع الشباب.. امشينا كل الطريق عشان ننبسط..

كان طول البحيرة 150 مترًا، تراهن وتنافس محمد مع اثنين من أصدقائه على اجتياز الطرف الثاني للبحيرة.. دعاء تصور أجواء الرحلة بالهاتف، كانت تحاول تقريب عدسة الكاميرا وهي ترى زوجها يسبح ويبتعد أكثر، فجأة رأته توقف عن السباحة، كان الأمر طبيعيًّا بالنسبة لها فزوجها يجيد السباحة، أغلقت التصوير، بقيت واقفة لم تتفوه بكلمة، لم تعلم أن هناك عاصفة قادمة باتجاهها، عاصفة حزن ستنزل على قلبها، مجموعة من الشباب تقف قرب شاطئ البحيرة لا يجيدون السباحة، محمد تجاوز سباحة جزء كبير من البحيرة، دون أن يشعر الجميع، كان محمد يصارع الغرق وشيء يسحبه للأسفل.

خرج أحد الشباب ينادي "وين أبو رياض يا أم رياض؟" كانت هذه كنية الزوجين، أشعل كلامه اضطرابات قلبها "احكيله ما يمزحش معنا".

غرق.. وإهمال سلطات

لاحظ شاب فلسطيني من لبنان ويدعى ناصر –وهو من تنافس معه محمد- أن محمد يصارع الغرق، فانطلق نحوه يحاول إنقاذه، وأخبر ناصر شقيقه ويدعى أيضا محمد الذي يجيد السباحة أفضل منه أن يلحقه، وصل ناصر منتصف البحيرة منتهيًا، كما روى فيما بعد لدعاء، اقترب من محمد، شاهده يغطس ومن ثم يخرج، شاهد المياه تدخل في فيه، بدأ يختنق، "محمد هات ايدك على ظهري".. فعل محمد ما طلبه ناصر، لكن الاثنين بدآ يغرقان.. هل سينتهي حلم محمد هنا؟ هل سيغرق في جزيرة الموت؟ لم يحسن ناصر سحب محمد، وبدأ الثاني بالغرق.

الموت قريب من الاثنين، لكنهما يتشبثان بالحياة، يحاولان الصمود والصعود، وصل شقيق ناصر، لم يستطع سحب الاثنين، "روح".. قالها محمد لناصر وبدأ ينزل نحو الأعماق، نعم ضحى محمد بنفسه، وسحب ذلك الشاب شقيقه ناصر، وظل يجره حتى وصل الشاطئ.

إنها لحظة نهاية الحلم، في هذه البلاد تتكسر الأحلام وتنتهي، ينخر الألم والوجع أجساد المغتربين.. اختفى محمد في أعماق البحيرة، لم تنسَ دعاء هذا المشهد القاسي، فهل هناك أقسى من رؤية أعز من في الوجود يموت أمام عينيها، خرج ناصر وشقيقه يتقيآن، أغمي عليهما من شدة التعب، وارتميا على الشاطئ، بعد أن خرجا من الموت، بل شاهداه أمام أعينهما، كانت كل خطوة بالنسبة لهما سنة.

اتجهت دعاء نحوهما شاحبة الوجه، وخائفة، وقلقة، ومضطربة، "وين محمد؟"، ليضعها أحدهما أمام الصاعقة التي قصمت قلبها: "راح"، تسقط جاثية على ركبتيها، تسكب عيونها حزنها "كيف راح؟"، تمالك أحدهما نفسه ورد عليها: "حاولنا إنقاذه، لكن لم نستطع فعل شيء"، ستبقى تلك اللحظة تتكرر أمامها.. "محمد في موته كان رجلاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فضل أن يموت وحده على أن يموت ثلاثتهم".

عادت دعاء بشريط ذكرياتها للوراء، فقبل لحظات، كانت تخطط هي وزوجها لما سيفعلانه ببلاد أوروبا، يضحكان، يلعبان، يواجهان صعوبة العيش بجزيرة كيوس أو كما تسميها جزيرة الموت، لا تتخيل أن هناك لحظة فراق للحب الذي جمعهما في قلب واحد، لم تتمالك الصدمة، أغمي عليها، اتصل الشباب بالشرطة الموجودة بالجزيرة التي وصلت بعد 20 دقيقة من غرق زوجها.

فرصة.. وخمس ساعات

وصلت الشرطة اليونانية، تعافت دعاء من الإغماء، نظرت حولها، سندت رأسها، تنظر باتجاه هؤلاء الشباب "لقتوه؟"، لم يجبها أحد، تحدثت باللغة الإنجليزية مع ضابط الشرطة، تريد إجابة تعيد لها الحياة..

- زوجي غرق قبل عشرين دقيقة.. هل هناك أمل بإخراجه؟

بدا الضابط غير مكترث لما يجري: لا نستطيع، اليوم الأحد عطلة.

تذرف دعاء دموعها وهي تسكب أحزانها "الموت بيعرف عطلة؟" كلماتها لم ترقق قلوب ضباط الشرطة اليونانية، لم تعرف سبب قسوتهم، هل لأنها لاجئة فلسطينية؟ أما لقسوة قلوبهم تجاه كل المهاجرين؟ تشاهد بعضهم يضحكون دون مشاعر.

أمام لحظات الحزن وحاجتها لمن يواسيها، يخفف عنها، يساعدها في إنقاذ زوجها، تتفاجأ أن الضابط يطلب منهم التوجه معهم نحو مركز الشرطة للتأكد أن الحدث ليس جنائيًّا، وأنها لم ترسل هؤلاء الشباب لقتل زوجها، يقطر الحزن من صوتها وهي تكمل: "ذهبت إلى مركز الشرطة وكان معي شابان حققوا معهما وهما من عائلة أبو زهري".

الشيء الذي لم تتخيله حدث.. الساعة الثامنة مساءً وصلت دعاء مركز الشرطة، بقي مجموعة من أفراد الشرطة ومعهم أصدقاء محمد ينتظرون وصول فريق متخصص بالإنقاذ والغطس وأحدهم اعتنى بابنتها "إيلين".. الحادية عشرة والنصف مساءً بدأت عمليات البحث، كانت والدة دعاء تتصل بهاتف زوجها، نظرت دعاء للهاتف وجدت أربعا وعشرين مكالمة لم يُرَد عليها، واصلت تجاهل المكالمة، وهي تحدث نفسها: "ماذا سأقول لها؟ أنتظر ما يقولونه لي زوجك حي أم ميت"، اتصل أحد أفراد عائلة أبو زهري بدعاء الساعة الواحدة فجرًا يخبرها أن الشرطة أخرجت زوجها ونقلته للمشفى.

تلك التفاصيل ما زالت تغازلها حتى في المنام تحولت إلى حلم مزعج.. "كنت خائفة أن أسأل ذلك الشاب، هل أخرجتموه حيًّا أو ميتًا، لم أكن أريد السؤال، كنت خائفة من الإجابة الصادمة"، لكن دعاء تجرأت ونظرت إلى الضابط اليوناني بمركز الشرطة الذي كان يجلس على مكتبه وسألته باللغة الإنجليزية وهو يرى قطرات دموعها تهرب إلى خدها واحدة تلو الأخرى: "هل يمكن أن يكون على قيد الحياة؟"، اكتفى بالرد: "لا أعلم".

ما زالت التساؤلات كبركان ألم يأكل قلبها، لتعيد ذات السؤال على شرطي آخر خارج مكتب الضابط، فكان رده أجرأ من سابقه: "صعب أن يكون على قيد الحياة"، بدت دعاء متماسكة لكن بين نبرة صوتها كان أنين الجرح واضحًا لا تستطيع إخفاءه، وكيف تستطيع ذلك عندما يكون الفراق لأحب شخص إلى قلبها في هذا الوجود.. "أمسكت هاتفي وتصفحت بعد ذلك الإنترنت، وبحثت عن مدة وفاة الإنسان بعد الغرق، لكن لم أجد إجابة واضحة عن مدة الموت بعد الغرق بالمياه العذبة".

نار الحيرة اشتعلت أكثر في قلبها، "هل غاب ولن أراه مجددًا؟ كيف له أن يصبح ذكرى بهذه السرعة؟ هل سأكمل حياتي وحيدة بدونه؟" تخيم تلك الاحتمالات في رأسها.. طلبت من الضابط الذهاب للمشفى، تريد وضع النقطة الأخيرة لحيرتها، لا مفر من مواجهة الحقيقة، لكن الضابط طلب منها استكمال إجراءات التحقيق ورؤية زوجها بالغد، أمام تعنت الضابط وحسرتها على زوجها انهارت وأغمي عليها، فقرر الأطباء نقلها إلى المشفى.

على كرسي متحرك كان الممرضون ينقلون دعاء، أعطيت ثلاث حقن مهدئة ومنومة، لحسن حظها وجدت شيئًا اضطراريًّا أجّل لحظة مواجهة الحقيقة، دخلت في نومها، استيقظت دعاء، سألت عن زوجها، أدخلت إلى الغرفة التي يوجد بها.

خطواتها متثاقلة وكأن هناك مسير عام بين الخطوة والأخرى، تخيلت مشهدًا أن يبتسم لها، أو تسمع نبضات قلبه لتعيد لها الحياة من جديد، دخلت، فوجدت الجزء الثاني من قلبها، جسدا بلا روح، غابت الضحكة، لا صوت للقلب، لا تصدق أنه أصبح ذكرى، لا تصدق أن ما قاله لها "بدي ألعب مع الشباب" سيكون آخر كلام له معها، وأنه لن يعود، لن ينظر إليها، لن يتحدثا، لن يواجها الحياة معًا منذ هذه اللحظة.. "كيف لك أن تتركني؟" اقتربت من ذاك الملاك النائم، نعم، مات محمد غريقًا، دفن في تلك الجزيرة، ولو نطق لقال: أريد أن أدفن في حضن غزة.

بقيت دعاء مع شقيقها الذي سافر إليها في هذه الجزيرة، تزور قبر زوجها إلى أن تحين لحظة السماح لها بمغادرة جزيرة الموت، "سيبقى قبر محمد شاهدا على معاناة كل لاجئ وصل إلى جزيرة كيوس"، وهي لا تنسى أصدقاء زوجها ووقوفهم بجانبها في أصعب لحظات الألم، "وقوفهم بجانبك يقويك، يشعرك بأن هناك أناسا أصحاب شهامة، وأننا شعب متلاحم في عز الأزمات لا نتخلى عن بعضنا، يظهرون رجولة أبناء غزة بوقوفهم معي ومساندتهم لي".

المفاجأة الثانية التي صدمت دعاء أن "البحيرة" لم تكن بحيرة، بل هي منطقة بين الجبال لتجمع الأمطار، لم تجد لافتة مكتوبا عليها "السباحة خطر"، ولو علمت ذلك لمنعت زوجها من السباحة، وكذلك لما خاطر محمد بحياته، فكان هذا أكبر خطأ ظلمت فيه السلطات اليونانية اللاجئين والمهاجرين.

بقيت هي وابنتها إيلين التي لا تعرف شيئًا سوى أنها تفتقد ذلك الشخص الذي أحبها، وتعلق بها، تبحث عنه تنظر حولها فلا تجده، تنظر إلى صورته تعرفه تنادي عليه "بابا"، تقبل صورته، تحضن الهاتف حينما تراه، ولا تدرك هذه الصغيرة أن والدها لن يعود، ستكبرين يا "إيلين" وتدركين حجم حب والدك لك.

حكاية عشق أخرى لمحمد لم تكن مع دعاء ولكن مع كرة القدم، كان يطمح أن يكون لاعبًا عالميًّا، لعب بأندية غزة لكرة القدم، كانت الكرة تبعدهما عن بعضهما لساعات لانشغاله بالمباريات والبطولات الرياضية بغزة، تعترف بتلك اللحظات التي لن تعود مجددًا.. "كان محمد يصحبني لتمارينه ومبارياته لأشجعه وأدعمه وأحببه بالكرة أكثر لأنه يحبها"، لكن كان ذهابه معه بشرط فكاهي: "إذا لم تحرز هدفًا لا تأتِ للبيت".

"أكثر شيء يجعلني فخورة بمحمد أنه لم ينسَ بلده، كان مبدؤه الصبر والتحمل لأن غزة تحتاج لذلك".. تبدي فخرها بزوجها، كان صوتها يخفي مرارة الألم "عندما سافرنا لم يحدد محمد المشروع مسبقًا، بل كان يريد دراسة احتياجات البلد التي سنذهب إليها ويقرر افتتاح مشروع، كنت أقول له: مهما استصغر الناس مشروعك سيكون شيئًا كبيرًا بنظري".

3 سنوات من الحب.. انتهت

ما هي الصفة السلبية بمحمد؟ سؤال طرحه كثيرون عليها، يتعجبون من إجابتها: "لا توجد، لا أتحدث بهذه اللغة كونه توفي، كنت أراه ملاكًا، صفاته فوق الخيال، الرجولة، وصدقه، وإخلاصه، ومشاعره الدافئة، وقلبه الحنون، وخدوم، ولم يكذب في حياته، ورغم أن الصراحة جارحة كما يقولون لكنه كان صريحًا بطريقة تذيب القلب بمشاعره وأحاسيسه، ومثقف، ومتزن، وأخلاقه عالية، ومتدين، ومحافظ، وكان يحفظ من القرآن، حتى أنه كان يستثمر اصطفافه في طابور انتظار "الكابونة" بالجزيرة في قراءة القرآن".

ثلاث سنوات هي فترة الزواج والحب الذي احتضن محمد ودعاء في قلب واحد، بعد أن خطف قلبها لحظة تقدمه لطلب يديها، تتحسر على فراقه: "أحببته من أول نظرة رأيته فيها عندما خطبني، كان أساس الحياة بطريقة صحيحة ومضت كذلك، حتى حينما رحل ذهب بأجمل موت"، تخاطب روحه بصوت يقطر بالحزن "يا محلى الإنسان يموت شهيد ويا ما أصعب فراقه.. يا ما أصعب فراقك يا محمد".

"قد تكون حادثة وفاة وغرق محمد أثرت كثيرًا في نفسيتي وكسرتني، لأنه لم يكن شخصًا عاديًّا، كان الأب والأخ والصديق والزوج والحبيب، لكنني على يقين أنني سأخرج من لحظة الانكسار، فهناك أشخاص يريدون رؤيتي قوية، فقدت أغلى ما أملك، محمد ذهب لكن بلدي التي ولدته لم تمت، وهذا ما يعطيني قدرة على الاستمرار في عز لحظات الضعف"، وبهذا نسدل الستار على قصة محمد ودعاء التي بدأت بحلم وانتهت بموت.