فلسطين أون لاين

​انشاصي.. ترك الطعام وعاد بمسكه "الفايح"

...
صورة أرشيفية
غزة/ هدى الدلو:

بعد سماعه خطاب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في جمعية الأمم المتحدة، ثار الغضب في صدره، وألهبت حالة من الغليان قُرئت في نظراته، وفي صبيحة يوم الجمعة قبل ذهابه للمشاركة في مسيرات العودة وكسر الحصار على الحدود الشرقية، جلس على التلفاز قليلًا ليتابع آخر أحداث المسيرة التي آلت لها.

وطلب من أخته "خازنة أسراره" تجهيز "قلاية البندورة" لأن نفسه تشتهي تناولها، ولكن المشاهد التي عرضت على شاشة التلفاز لأحداث مسيرة العودة، والأخبار التي تواردت عن نية عباس فرض عقوبات جديدة على أهالي قطاع غزة، دفعته لترك سفرة الطعام والذهاب للمشاركة في المسيرات للمطالبة بحقوقهم في العيش الكريم..

محمد علي انشاصي (18 عامًا)، من سكان حي الأمل في مدينة خانيونس جنوب القطاع، أثناء مشاركته السلمية قنصه جندي الاحتلال الإسرائيلي برصاصة في صدره أنزلت دمعة من عينه، وأخرى في يده، وثالثة في ساقه، ليرتقي شهيدًا بعد محاولات حثيثة لإنعاشه.

عم الشهيد أبو عيسى قال: "كان محمد من الملتزمين بالمشاركة بالمسيرات، رغم أنه في البداية كان يذهب بالخفاء، دون أن يُعلِم أحدًا من أهل بيته وجهته، خوفًا من أن يُمنع، وحتى لا يضع والديه في حالة من القلق والخوف عليه".

ولكن جمعة "انتفاضة الأقصى" الجمعة الثامنة والعشرين من مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار لم تكن كغيرها مما سبقها، فقبل ذهابه للمسيرة، أوقفه أحد الشبان في حارتهم، وقال له: "شو يا محمد أنت مسئول وحدة الكوشوك بحارتنا، بأشوف ما في ولا شهيد عنا، فرد عليه: "أنا الشهيد".

وسرد عمه أن أصدقاءه اتصلوا عليه صبيحة يوم الجمعة ليدعوه ليتناول معهم طعام الغداء، فقال لهم: "إذا في نصيب بلحقكم"، فرفض الذهاب مع أصدقائه، وفضل المشاركة في المسيرات كواجب وطني عليه أداؤه.

الشهيد محمد الذي يعمل مع والده في محل "بناشر" السيارات، من الشباب الملتزمة في المساجد، ومن حفظة القرآن الكريم، رغم صغر سنه إلا أن له مكانة في قلوب الجميع، فهو محبوب وعرف بأدبه وأخلاقه، ولا يُسمع صوته، كما أنه ودود وكتوم، ويكظم غيظه حتى لا يقع بمشاكل مع الآخرين.

وكان يذهب للمشاركة دون أن يخبر أحدا، حتى أنه أصيب مرة في يده إصابة طفيفة، فسأله عمه عم في يده، فأخفى عنه السبب الحقيقي وقال له إنه وقع أرضًا، ولكن في الفترة الأخيرة اكتشف أمره بأنه من المشاركين الدائمين في المسيرة، فحدثه عمه ألا يذهب فهو سند والديه في الدنيا، وفي الجمعة قبل الأخيرة حاول الاحتلال استهدافه، ولكنه نجا بفضل الله.

الأخ الناصح

كانت وصيته الدائمة لإخوته جميعًا بالحفاظ على أداء الصلاة بوقتها، والمداومة على قراءة القرآن، وطاعة والديه، ولأخواته "خليكوا دايمًا مستورات"، وتربطه علاقة قوية مع والديه، خاصة أمه، فهو البكر، فكان بالنسبة لها رفيقًا للروح، والصديق والابن والأب والأخ "هو كل حياتها".

أما أخته "هيا" (16 عامًا) التي كانت حافظة أسراره، حلمت به قبل ثلاثة أيام من استشهاده بأنه يطير بالفضاء حاملًا والدته بصندوق، "فكنت شبه متيقنة بأنه لن يدوم بيننا طويلًا، وسنفقده في أي لحظة"، وفق قولها.

وتتابع حديثها: "جلس مرة معي وقال لي الشهادة مش لأي حد، فهي رزق من عند الله، ودعا ربه أن يرزقه إياها يومًا ما"، أما صبيحة يوم الجمعة فاستيقظ منشرح الصدر، وقال لوالدته: "حلمت أنه في خبر حلو راح ييجي.. وربنا يعوضكم عوض خير واصبروا"، فشعرت أمه بثقل يزداد على صدرها، وأوصته بعدم الذهاب للمسيرات، ورد عليها: "لا ما بقدر، بدي أروح، بس راح أضل واقف بعيد".

تكِن هيا لأخيها مشاعر خاصة لا يمكن وصفها، فهو من دفعها لحفظ كتاب الله كاملًا، وكان متابعًا مع محفظتها في المسجد ودائم السؤال عنها، وقد وعدها بعمل حفلة لم تحلم بها يومًا، وهدية إتمام حفظها للقرآن، فكان بمجرد النظر إلى عينيها يعرف ماذا تريد، وما الذي يزعجها.

قبل خروجه من البيت تحمم وتعطر بعطر جديد وسأل والدته: "كيف ريحة العطر فايحة كتير؟"، ووضع الكوفية على كتفيه وهزهما ممازحًا أخته، "كيف حلوة عليّا؟ بتجنن يخو، ولكن وين يا مسهل؟ فأجابها: على عرس إن شاء الله"، وسلم عليها وأوصاها بما اعتاد عليه الصلاة والقرآن ووالديهما.

واستكملت أخته: "ومن شدة حرصه على الصلاة والمواظبة على أدائها في المسجد، كان يقول لي أنا هامل إذا بصلي فرض من فروض الله في البيت"، قبل يوم واحد من استشهاده تخرج من دورات التلاوة والتجويد.

رغم صغر عمره إلا أنه كان كبيرًا بعقله، وبأفعاله وتصرفاته، اليوم نفقد محمد الأخ الحنون والصديق القريب من القلب، ولكن تبقى وصاياه ترن في أذنها، ورائحة المسك المنبعثة من جواربه عالقة في أنفها.