قبل كل خطاب لعباس في الأمم المتحدة يحاول أنصاره إظهاره بأنه مثل عمر بن الخطاب سيفتح القدس لكنه سيذهب إلى الأمم المتحدة ويحضر المفاتيح من هناك، فتبدأ حملات الدعم والمناصرة، واتهام كل من لم يدعم الرئيس بالخيانة، والتساوق مع الأعداء في محاربة المشروع الوطني الفلسطيني.
لقد أصيب الكثيرون بسكتة عقلية وهم يتصورون أن خطاب عباس سيقض مضاجع الاحتلال رغم معرفتهم بأنه لن يضيف جديدًا في خطابه، وإزاء هذه البلادة السياسية من جمهوره ومناصريه لا بُدَّ من أسئلة:
إلى متى سنبقى نُلدغ من نفس الجحر ونصفق لمن يلدغنا وكأن شيئًا لم يكن؟ إلى متى سنتغنى بفكرة (نختلف معه ولا نختلف عليه) ونتبنى فكرة (أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب)؟ إلى متى نسمح لمن يمنح الاحتلال صك غفران عن كل جرائمه ليكذب علينا أنه ضد الاحتلال؟ ثم لماذا يفترض الداعمون أن الرافضين يصطفون في خانة أمريكا و(إسرائيل) ضد عباس؟ وما أوجه مقاومة عباس لصفقة القرن؟
نذكر في العام الماضي أنّ عباس وقف على ذات المنصة وقال ذات الكلام وقال أنصاره ذات الكلام قبل الخطاب، فما كان من عباس إلا أن زاد في إجرامه بحق غزة وأهلها، وقد طال هذا الإجرام من فوضوه، حيث قبلوا على أنفسهم أن يُلدغوا من ذات الجحر مرتين، وجاهزون للمزيد.
إن فكرة "نختلف معه ولا نختلف عليه" قد أضرتنا أكثر مما نفعتنا، فهي تصور عباس أنه لا ينطق عن الهوى وأن القضية من دونه ستضيع، وفي ذلك إهانة للشعب الفلسطيني ووصفه بالعجز عن إنجاب قادة حقيقيين، كما أن عباس بتعامله الناعم مع الاحتلال وتعهده بعدم مقاومته رغم إجرامه يمنحه صك غفران من جرائمه ويدفعه للمزيد منها، بحجة أننا لن نقابل العنف بالعنف، أليس هذا إنكارًا لسنن التاريخ التي تقول إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة؟
من بين ما روجه أنصار عباس هو ضرورة تنحية الخلافات الداخلية جانبًا وفق المثل القائل (أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب)، بحكم أن عباس سيتحدث أمام العالم ويجب دعمه في هذه المعركة الشرسة، هذا جميل، لكن ألم يستخدم عباس المحافل الدولية للتشهير بغزة والتحريض عليها وأن المقاومة هي ميلشيات؟ وخير دليل هو ما حدث في الخطاب الأخير.
ثم إنَّ وصف المعترضين على سياسة عباس بأنهم يتساوقون مع صفقة القرن، هل يمكن تصديق هذا؟ هل غزة وهي تقدم شهداء يوميًّا تتساوق مع صفقة القرن؟ وما أوجه مقاومة الصفقة؟ إن مقاومة الصفقة تفترض زلزلة حياة الصهاينة وجعلهم يشعرون أن لا حياة لمن في هذه الأرض، وليس أن نؤمنهم ونحرص عليهم، مثلما يحدث في الضفة.
لقد هولت السلطةُ الخطاب ووصفته بالتاريخي ويمثل مفترق طرق والفرصة الأخيرة لعملية التسوية، ثم اتضح للجميع أن ما قيل قبل الخطاب ليس أكثر من بروباجاندا إعلامية، وأن الخطاب لم يكن أكثر من تفريغ انفعالي مارسته السلطة، حيث كان أشبه بوصف حالة موجودة غير خافية على أحد، دون تقديم خطوات أو برنامج عمل يتسم بالجدية تجاه الاحتلال، إلا التعهد بضمان أمن الاحتلال ومستوطنيه.
في الخطاب كانت تهديدات عباس للاحتلال ناعمة، ومنحه فرصة مفتوحة الزمن، أما مع غزة فكان عباس فظًّا خشنًا، فقد منحها فرصة أخيرة وفق زمن محدد لكي تستسلم لشروطه.. وإلا، وأظن أن تهديده للاحتلال ولغزة هو من باب ذر الرماد في العيون وكي يظهر بمظهر أنه يتحدى الجميع، فلن يجرؤ على فعل شيء ضد الاحتلال، وهنا أرى أن تهديد عباس لغزة من على منصة الأمم المتحدة يؤكد رغبته في إشراك الجميع وإشهادهم وأخذ موافقتهم على ما سيفعله بغزة.
يمكن القول بأن ما فعله عباس في الأمم المتحدة هو أنه شارك في مسرحية هزلية ولعب دور النائحة، رغم أن جمهور المسرحية لا يعترف بالعواطف.
أخيرًا: إن الملاحظة التي أقر بها مندوب فلسطين في الأمم المتحدة هي انسحاب الكثير من الوفود من القاعة في أثناء كلمة عباس، هي ملاحظة تؤكد أن القضية الفلسطينية في عهد عباس تدهورت إلى درجة أن الزعماء انسحبوا من القاعة، وكان أكثر التصفيق من الوفد الفلسطيني، يعني من أهل العريس.