كتفًا إلى كتف تجد المسعفات ينقذن المصابين مع زملائهم المسعفين، غير آبهات بأي رصاصة من جندي في جيش الاحتلال، يمكن أن تنهي حياتهن، حتى إن بعضهن أصبن إصابات خطيرة وعدن إلى الميدان لمواصلة عملهن الإنساني.
المسعفات في مخيمات مسيرة العودة الكبرى وكسر الحصار السلمية يقاومن بضماد ومطهر الجروح، ويسعين إلى إنقاذ المصابين، لاسيما الحالات الخطرة، في سباق مع الوقت، وكل مرة يفعلن ذلك يكن قريبات من الشهادة أكثر.
الممرضة المسعفة لمياء أبو مصطفى، شاركت بتشجيع من زوجها في تضميد جراح المصابين في مسيرة العودة منذ انطلاقها في 30 آذار (مارس) الماضي، شرق مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة.
وكانت المفاجأة عندما استشهد "غازي"، زوج هذه المسعفة، بين يدي زملائها، ولم تستطع إسعافه لأنها كانت تنقذ جريحًا آخر.
ولم يكن زوجها يفارقها في الميدان، وطالما شجعها على مواصلة عملها الإنساني.
تقول أبو مصطفى لصحيفة "فلسطين": "التحقت مسعفة للجرحى بتشجيع من زوجي الشهيد بدافع وطني بحت، وكنت أعد الطعام لأطفالي، ثم أذهب معه إلى مخيم العودة في خزاعة، وهو أصيب مرتين في قدمه، قبل أن يرتقي إثر الإصابة الثالثة التي اخترقت رأسه".
وتذكر أنها حصلت على دبلوم التمريض، وقد تطوعت لإنقاذ حياة المواطنين بما تعلمته، مضيفة: "لا يمكنني الجلوس مكتوفة اليدين وأرى مصابين ينزفون دون أن أسعفهم لإنقاذ أرواحهم".
جرأة وبسالة
وعن احتمال استشهادها برصاص الاحتلال أو قنابله تجيب أبو مصطفى: "لم يتملكني الخوف بتاتًا، بل كنت أسعف الجرحى دون تردد برفقة زوجي، ولم نحسب حسابًا للرصاصات القاتلة التي يصوبها جنود الاحتلال على مسافة قريبة جدًّا".
وتتابع: "في البداية كنت أفكر في أطفالي من بعدي، ولكن حينما شاهدت جرأة وبسالة المسعفات وهن يجتزن السياج الفاصل، ويعرضن حياتهن للخطر من أجل إنقاذ روح؛ لم تعد تراودني تلك الأفكار، فالشهيدة المسعفة رزان النجار (استشهدت مطلع حزيران (يونيو) الماضي برصاص الاحتلال خلال ممارسة عملها الإنساني بمسيرة العودة) كانت تؤمن بأن الرصاصة التي ستقتلها لن تحيد عنها، لأن ذلك سيكون قدرها".
وبصوت غلبته الدموع تتحدث أبو مصطفى عن أصعب المواقف التي مرت بها: "شاهدت زملائي المسعفين ينعشون قلب مصاب، وما إن اقتربت من الخيمة الطبية حتى تفاجأت بأنه زوجي".
تكمل: "لم أتوقع أن تكون الرصاصة قاتلة"، مبينة أن زوجها الشهيد كان قد أصيب من قبل في انتفاضة الأقصى.
وتذكر أبو مصطفى المعطف الأبيض الذي لم يسلم من رصاص جنود الاحتلال، عندما قتلوا المسعفة النجار، وبعدها المسعف عبد الله القططي، لافتة إلى أن كيان الاحتلال ينتهك القانون الدولي الذي ينص على حماية المسعفين.
ولا تنسى أيضًا روح المقاومة التي كانت تتمتع بها سيدة (50 عامًا)، تجلب الماء والخبز والجبن والزعتر للثائرين من مسافة صفر، وفي أحد أيام الجمع في أثناء وصولها لسقياهم أصيبت برصاصة متفجرة بترت قدمها على الفور.
وتؤكد أبو مصطفى أن عمل المسعفات في الميدان لا يقل جهدًا عن عمل المسعفين، بل كانت الأولوية لهن في إنقاذ السيدات المصابات.
أما المسعفة صابرين السطري من مدينة رفح جنوبي القطاع فهي متطوعة بتقديم الإسعافات الأولية لمصابي مسيرة العودة، بجهد شخصي، وأدوات طبية بسيطة على نفقتها الخاصة.
تقول السطري لصحيفة "فلسطين": "منذ اللحظات الأولى عزمت على تقديم الإسعافات الأولية لمصابي مسيرة العودة، لأنني لا يمكنني أن أتخاذل أو أقف مكتوفة اليدين وهناك أشخاص يحتاجون إلى مساعدتي".
حينما تركضين نحو المصاب بمحاذاة السياج الفاصل كيف يكون شعورك؟، تجيب: "أركض ويتملكني الخوف على حالة المصاب: أشهيد هو أم مصاب؟، أكثر من خوفي على نفسي، كل هدفي إيقاف نزف الدم في أقصر وقت لإنقاذ المصاب".
الإصابات التي خلفها جنود الاحتلال في صفوف المشاركين في المسيرة السلمية منها ما كان خطرًا جدًّا، ويشمل بترًا للأطراف، وتهتكًا في الدماغ والأمعاء، فكيف لـ"السطري" أن تتحمل هذه المشاهد؟، تذكر موقفًا لا تنساه، عندما هرعت نحو مصاب لإنقاذه، وكانت أمعاؤه خارج بطنه، وما إن رفعت رأسه حتى اكتشفت أنه أحد أقربائها.
تتابع السطري: "حينها انهرت باكية، ولم أستطع التصرف، وانتابتني الحالة نفسها عند إصابة عبد الله القططي زميلي، إذ كنت في تلك اللحظة برفقته ذاهبين إلى إسعاف مصاب بالغاز، وحينها قنص واستشهد على الفور".
وفي مقطع "فيديو" يوثق استشهاد الطفل أحمد أبو طيور انتشر على منصات التواصل الاجتماعي كانت المسعفة السطري خلفه، وقد اعتادت رؤيته وشجاعته المنقطعة النظير كل يوم جمعة، واستشهد بين يديها بعد إصابته.
وفي جمعة "المقاومة خيارنا" منتصف الشهر الجاري كانت معرضة للاستشهاد، تبين أنها ركضت لإسعاف مصاب في صدره، ولحظة التفافها وجه جنود الاحتلال الإسرائيلي رصاصة تجاهها، لكنها أخطأت الهدف.
تضيف: "في تلك الجمعة تحديدًا انتابني الخوف من عظم الأحداث التي قد تقع، فطلبت من أمي أن تدعو الله أن يحمي الشباب وألا يصاب أحد بمكروه، لتجيبني أمي باستغراب: (خائفة على الشباب، ولا تخافين على نفسك؟!، سأدعو لك معهم أيضًا)".
صابرين ولمياء مسعفتان مستمرتان في أداء مهنتهما الإنسانية أمام احتلال لا تعنيه حياة أي إنسان، مهمته إراقة المزيد من الدماء، لكن الشعب الفلسطيني الأعزل مستمر بالدفاع عن وطنه والمطالبة بحق عودته إلى أراضيه المحتلة منذ 1948م.

