حتى وقت قريب نسبيًّا، ظل الكيان مشغولًا بأمنه العسكري، ولم يولِ إلا القليل من الاهتمام للدبلوماسية العامة بشكلها الثقافي، ومع ذلك، وبظهور ساحات مواجهة أخرى، شهدنا تحولًا في نهجه باتجاه القوة الناعمة، بشروعه في السطو على تاريخ وثقافات شعوب أخرى، منها الفلسطيني، محاولًا ابتداع هوية حضارية لنفسه، كان ومازال يفقدها. ولعل آخر أنشطة الكيان في مضمار الاحتيال الثقافي سطوه على العديد من المأكولات الفلسطينية الشعبية، مثل الشكشوكة، ونسبها إليه بوصفها طبقًا (إسرائيليًّا) شهيرًا، هذا التضليل الثقافي لم يقتصر علينا، بل سبقه سطو على أطباق شامية، كالحمص والفلافل وغيرهما.
ولأن الهيمنة على التاريخ أحد متطلبات الغزو الثقافي؛ يمزج الكيان بين نوعين من الدبلوماسية العامة المرتبطة بالمأكولات: دبلوماسية الطهي Gastro Diplomacy ودبلوماسية المعدة Culinary Diplomacy، فالاثنتان تعبير عن شكل اتصالي من طريق المطبخ أو الطعام، ولا يقتصر على تذوق طبق ما، بل يشمل طقوس الإعداد والتحضير، بهدف إيجاد فهم وتقاطع مشترك بين الثقافات، وبذلك تحسين فرص التفاعل والتعاون بين الشعوب.
ولكن ما يجعل الأولى مختلفة عن الثانية هو نطاق الجمهور المستهدف من الدعاية الثقافية؛ فدبلوماسية الطهي تتوجه نحو جمهور أضيق، يشمل الوفود الرسمية والحكومية والخاصة، بعكس الثانية التي تحاول ترويج نفسها على نطاق واسع داخل المجتمعات، كسلسلة مطاعم "كنتاكي" الأمريكية، باختصار: هذا النوع من الجهود دعائي بامتياز، ويسعى إلى كسب العقول والقلوب من طريق الطعام أو المعدة، ويمكن تصنيفه شكلًا ترويجيًّا محضًا، وأسلوب تأثير فعالًا على المستوى الثقافي للجمهور.
وهنا يبرز تساؤل عن دورنا الشعب الفلسطيني، إذ تُسرق ثقافتنا أمام أعيننا، الإجابة هنا تتمحور كما كل مرة حول فهم أساليب ومناهج وأشكال ترويج العدو لنفسه أمام العالم. وعندما نتمكن من رصدها وتحديدها، عندها فقط نستطيع تخطيط برامج لمواجهتها، ولكن المنشود حاليًّا التركيز على الدور الشعبي، لما كان الجهد الدبلوماسي معطلًا، أو منشغلًا بأمور أخرى، وهنا مطلوب من الأفراد تكثيف الإصدارات التي تروج لثقافتنا، بإعداد مواد مرئية عن أطباقنا الرئيسة، وكيفية تحضيرها، وأوقات تقديمها، ويمكن الاستفادة من مواقع الإعلام الاجتماعي في نشر هذه المواد، على اختلاف أشكالها، لإمكانية الوصول من طريقها إلى جمهور عالمي، ولا يقتصر دور الأفراد على الترويج فقط، بل يشمل أيضًا تكذيب الأسطورة الثقافية التي يحاول العدو صناعتها، بملاحقة ما يصدر عنه، وإعادة تصديره بشكل جديد، على قاعدة الدعاية المضادة.
وأخيرًا، لم يترك العدو مجالًا ثقافيًّا ولا اجتماعيًّا، إلا ويستغله في خلق أسطورته الخاصة، بالسطو على تاريخ غيره، وإعادة تمثيله بطريقة تستجيب لمستواه الحضاري الذي يزعم. ومهما يحاول فسيظل التاريخ ملك أصحابه، ولكن ما نخشاه أن التاريخ الذي يكتب اليوم سيكون ملك صانعه مستقبلًا، لهذا وحده أزعم أن الدعاية والتاريخ تعبير عن شيء واحد.