في مسارات "صفقة القرن" المطبوخة أميركياً و"إسرائيلياً"؛ تأتي لعبة بنيامين نتنياهو الدموية في قطاع غزة، فهي لعبة مزدوجة هدفها الأول عزل الفلسطينيين بشكل عام وإضعافهم، وبالتالي وضعهم أمام خيارات قاسية للقبول بــ"صفقة القرن".
وهدفها الثاني إعادة استحضار قوة نتنياهو في المجتمع "الإسرائيلي" بعد الهزات الفضائحية التي شملته وزوجته، ومنها تلقيه الرشا الكبرى والعمولات المالية في صفقة الغواصتين الألمانيتين.
وبالفعل؛ أسفرت العمليات العسكرية "الإسرائيلية" الأخيرة في القطاع عن صعود سياسي جديد لنتنياهو وحزب الليكود في المجتمع "الإسرائيلي" الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية. فـ"بالدم.. والدم وحده" ينتعش غلاة المتطرفين في دولة الاحتلال.
حقيقة الأمر أن نتنياهو دَغدَغَ -بمواقفه وأفعاله الأخيرة- جمهورَ اليمين الذي يكتسح المجتمع "الإسرائيلي"، مُتخذاً عدة مواقف وإجراءات ملموسة على الأرض لإشباع نَهَم وغرائز جمهور اليمين واليمين المتطرف، وهي أشبه بالغرائز البهيمية التي تُؤشر لمديات عالية من النزعات الفاشية التي باتت مُنغرسة وسط الجمهور "الإسرائيلي"؛ وذلك من خلال:
أولاً؛ التصعيد العسكري الأخير ضد القطاع الذي أعقب المجازر التي ارتكبها -ولا يزال يرتكبها- جيش الاحتلال بحق المتظاهرين السلميين، المطالبين بحق العودة في فعاليات مسيرات العودة، وفك الحصار على طول السياج الأمني شرقي القطاع الفاصل بين حدود عاميْ 1948 و1967.
ثانياً؛ نقل رسائل التهديد للقطاع عبر قنواتٍ مُختلفةٍ، فقد نَقَلَ المبعوث الدولي نيكولاي ملادينوف مؤخراً إلى حركة حماس "تهديداً إسرائيلياً"، يقضي بطلب العودة إلى حالة الهدوء وإلاّ فإن "إسرائيل ستشن حربا طاحنة على غزة".
وأُردِفَت الرسالة بتهديدات من وزير الأمن أفيغدور ليبرمان، فحواها أنَّ "تكرار عمليات القنص على الحدود أو اقتحام السياج، وكذلك إطلاق البالونات؛ ستقابل بردِ مُشدد". وقد أبلَغَت حركة حماس ملادينوف رفضها "الرسائل الإسرائيلية"، مؤكدةً له حقها في الرد، ومشددة -في الوقت نفسه- على أنها "لا تخشى الحرب".
ثالثاً؛ استغلال الاحتلال "الإسرائيلي" فرصة واقع نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، والتغطية الأميركية الواسعة لسياساته؛ من أجل رفع منسوب عمليات الاستيطان في مناطق القدس، وحتى توسيع المستعمرات المقامة في مناطق محيطة بالخليل ونابلس بالضفة الغربية.
رابعاً؛ التحريض عبر الحملة الكبيرة التي شنها ويشنها نتنياهو وأركان اليمين على الحالة الفلسطينية عموماً، وعلى شخص رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وهي حملة ما زالت متواصلة إلى الآن، بل وتتصاعد معها كل يوم لغة التحريض والطعن في السلطة وشرعيتها، واستعادة مقولة "فقدان الشريك الفلسطيني".
اللعبة الجديدة/القديمة التي يحاول نتنياهو العزف على وترها؛ تتلخص في محاولة "إسرائيل" فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة جغرافياً وإدارياً وحتى سياسياً، والتعاطي مع القطاع عبر قنواتٍ إقليميةٍ وبدورٍ خاص لمصر، وكأن القطاع حالة خاصة لا علاقة لها بالضفة الغربية، وبالتالي يتم الإمعان في تمزيق الأرض والكيانية الوطنية الفلسطينية للأرض المحتلة عام 1967.
وتقول المعلومات المتواترة من مصادرها المؤكدة إنَّ دولة الاحتلال تُريد ترتيبات معينة بالنسبة لقطاع غزة -في إطار خطة "صفقة القرن"- تؤدي إلى تمزيق الأرض المحتلة 1967 بالتعاون مع الادارة الأميركية. إذ سيُطلب مليار دولار أميركي من الدول العربية لإعادة إعمار قطاع غزة، لكن سيكون هذا الإعمار في شبه جزيرة سيناء بدلاً من داخل قطاع غزة.
وكان موضوع جمع الأموال في صلب المباحثات التي أجراها كبير مستشاري الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر، ومبعوث الرئيس الأميركي الخاص لعملية التسوية في الشرق الأوسط جيبسون غرينبلات؛ في جولتهما أوائل تموز/يوليو الماضي.
جميع القوى الفلسطينية رفضت مضمون المبادرة الأميركية الخاصة بشأن قطاع غزة، والتي تشكل في جوهرها الشق المتعلق بالقطاع من "صفقة القرن"؛ وذلك لقناعتها التامة بأنها تهدف للفصل التام لاحقاً بين الضفة الغربية والقطاع، وإحداث المزيد من التمزيق وتوسيع هوة الانقسام في الحالة الفلسطينية.
ونقلت مصادر عن السلطة الفلسطينية قولها إنَّها "لن تتعاون مع المبادرة الأميركية لجمع مساعدات مالية من دول عربية لإعادة بناء قطاع غزة، لأن هدف هذه الخطة هو الفصل التام بين قطاع غزة والضفة الغربية".
وقال مصدر آخر مقرب من فصائل اليسار الفلسطينية: "من الواضح لنا أن الإدارة الأميركية تسعى إلى خطة تتماشى مع ما تم اقتراحه فعلا، بأن تكون الدولة الفلسطينية هي قطاع غزة...، بينما ستُصبح الضفة الغربية نوعاً من الإدارة المدنية الموسعة، لقد تم رفض هذه الخطة فورا من جانبنا، وهذه المرة لن يوافق العديد من الدول العربية -بأي شكلٍ من الأشكال- على مثل هذا المُخطط".
وفي هذا المجال، ووفق مصادر فلسطينية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرها من الفصائل المنضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية؛ فإنَّ ترامب "طلب من مُعظم الدول العربية المعتدلة -وعلى رأسها السعودية والأردن ومصر والإمارات- أن تُساند وتؤيد وتعمل على تسويةٍ في قطاع غزة، كمرحلة أولى في إطار خطة السلام المطروحة".
وعلى حد قول تلك المصادر؛ فإنَّ "تنفيذ خطة السلام الإقليمية -كتسوية في غزة التي هي جزء مركزي فيها- يأتي في ضوء إصرار أطراف في السلطة الفلسطينية على عدم التعاون مع إدارة الرئيس ترامب، رغم الضغوط التي تمارسها على الفلسطينيين دول عربية معتدلة للنزول عن شجرة المقاطعة، التي أكدتها قرارات المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الأخيرة بشأن مساعي الوساطة الأميركية".
وفي هذا السياق؛ تشترط المؤسسة الأمنية في دولة الاحتلال -قبل تنفيذ أي مشروع بالنسبة للقطاع، وأي مبادرة لتحسين الوضع المدني في قطاع غزة- حلَّ مسألة أسرى الحرب والمفقودين.
فمصادر حكومة نتنياهو تقول في تسريباتها المتواترة بأن "الجهاز الأمني يعمل -في الأشهر الأخيرة- مع جهات دولية على عدة مسارات لتحسين الوضع الإنساني في غزة، بحيث تتمحور الفكرة الرئيسية حول تقديم حزمة مساعدات إنسانية كبيرة في غضون بضعة أسابيع، ولكنها ستكون مشروطة قطعياً بحل قضية أسرى الحرب والمفقودين الإسرائيليين الموجودين في غزة".
كما أوضح المبعوث الأممي لغزة نيكولاي ملادينوف الذي توسط للتهدئة على جبهة القطاع أكثر من خمسين مرة خلال الأشهر الأخيرة؛ أن الموقف "الإسرائيلي" يساند فكرة تقديم حزمة كبيرة من المساعدات الإنسانية لسكان غزة مقابل حل قضية أسرى الحرب والمفقودين.
وقد حددت (إسرائيل) ما الذي يمكن أن يحصل عليه الفلسطينيون في القطاع، ويشمل ذلك تدابير الإغاثة الإنسانية؛ إذ تؤيد خطة منسق أعمال حكومة الاحتلال تقديم تسهيلات لتوسيع نطاق الصيد في بحر غزة، وإدخال المواد ذات الاستخدام المزدوج إلى قطاع غزة، وصولاً إلى خطتيْ المبعوث ملادينوف والرئيس ترامب.
وخلاصة القول هي أننا الآن أمام الشق المتعلق بالقطاع في إطار ما بات يُعرف بــ"صفقة القرن"، تلك الخطة التي لم تطرحها الإدارة الأميركية حتى الآن مُتكاملة لتوجسها من أن طريقها إلى التنفيذ دونه عقبات كُبرى، على رأسها موقف الشعب الفلسطيني، صاحب الرأي الحاسم في مصير تلك اللعبة التي يُريد أصحابها الإطاحة بحقوقه الوطنية والتاريخية على أرض وطنه فلسطين.