لا تبدو العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة والتي توصم بـ"الإستراتيجية" من قبل البلدين على مدار التاريخ، في أحسن حالاتها، لا سيما مع توالي تصريحات المسؤولين من الجانبين بالاعتراف بمدى السوء والضرر الذي وصلت إليه العلاقة ومحاولات رأب الصدع الفاشلة في تجسير الخلافات بينهما.
في 24 من يوليو/تموز الماضي، أقر الكونغرس الأمريكي مسودة قانون يمنع نقل مقاتلات الجيل الخامس إلى تركيا، رغم أن الدفعة الأولى من المقاتلات أصبحت في حوزة أنقرة قبل شهر تقريبًا، ولكنها بقيت في الولايات المتحدة لتدريب الطيارين الأتراك، وطالب المجلس الأميركي وزارة دفاعه بتقديم تقييم لمشاركة تركيا في اتحاد صناعة الطائرة والتأثير المحتمل لاستبعاد أنقرة، ولم يستجب المشرعون الأميركيون لتحذير وزير دفاعهم ماتيس أن منع تركيا من الحصول على المقاتلة يمكن أن يهدد سلاسل التوريد والتجميع ومواعيد تسليم الطائرة الأمريكية لمدة تصل إلى عامين لحين الحصول على موردين بدلاء للأجزاء التي تصنعها الشركات التركية.
أثارت الأزمة حرب تصريحات جديدة أضافت المزيد من أسباب الاشتعال للتوتر الكامن بين واشنطن وأنقرة منذ سنوات، وهو توتر يقود العلاقات بين البلدين إلى أدنى مستوى لها منذ الأزمة القبرصية، حاملًا معه دعوات لإعادة النظر في ذلك التحالف طويل الأمد بين الجانبين، أمريكيًا يجادل البعض أنه مع نهاية الحرب الباردة، فإن تركيا فقدت دورها الرئيس في استراتيجية الأمن الأميركية كحاجز ضد توسع القوة السوفييتية في الشرق الأوسط، أما من المنظور التركي، فإن أنقرة أيقنت مرة بعد أخرى أنها لم يعد بإمكانها الاعتماد على المظلة الأمنية الأميركية، فباستثناء التحالف المشترك في وجه السوفييت، فإن أمريكا لم تكن يوما ضامنا للمصالح الأمنية التركية، وأنقرة لم تذق في علاقتها مع واشنطن على مدار تاريخها سوى مرارة الخذلان عاما بعد عام.
البدايات الأولى للعلاقات العسكرية بين تركيا والولايات المتحدة تعود إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية إذ اختارت تركيا دخول الحرب إلى جانب الحلفاء مطلع عام 1945، فمع نهاية الحرب، كثف الاتحاد السوفيتي مطالبه بالاحتفاظ بقواعد عسكرية في المضائق التركية، ما دفع الولايات المتحدة لإعلان عقيدة ترومان التي التزمت بموجبها بضمان أمن تركيا واليونان، لتبدأ من ذلك الحين المساعدات العسكرية والاقتصادية الأمريكية في التدفق.
عمل الاهتمام المتبادل في احتواء التوسع السوفييتي كأساس للعلاقات التاريخية بين تركيا وواشنطن على مدار العقود الأربعة التالية، ودعمت تركيا بشكل كامل استراتيجية الولايات المتحدة الشاملة للحرب الباردة، وشاركت بقواتها تحت مظلة الأمم المتحدة في الحرب الكورية، وبحلول عام 1952 انضمت تركيا بشكل كامل إلى منظمة حلف الناتو.
في عام 1957 أعلنت تركيا تبنيها لمبدأ أيزنهاور وتعاونت مع حلفاء أمريكا الآخرين في الشرق الأوسط مثل إيران وإسرائيل في احتواء الأنظمة المدعومة من السوفييت، واستضافت تركيا قاعدة أنجرليك الجوية التي ستلعب فيما بعد دورا حاسما في العمليات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط.
بيد أن العلاقات الأميركية التركية اختبرت منعطفا قاسيا منتصف السبعينيات حين وقع الانقلاب العسكري المدعوم من المجلس العسكري اليوناني في قبرص وحينها قررت تركيا إرسال قواتها إلى قبرص لحماية القبارصة الأتراك، ونتيجة لتلك العمليات العسكرية سيطرت تركيا على الجزء الشمالي من قبرص، وردت الولايات المتحدة آنذاك بفرض حظر على توريد الأسلحة الأمريكية إلى تركيا للمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين البلدين، بعد أن خذل الرئيس الأمريكي جونسون الأتراك في أحداث أعياد الميلاد الدموية في قبرص عام 1963.
كانت تلك هي اللحظة الأولى التي تختبر فيها تركيا العواقب الكاملة لسياسة الاعتماد العسكري على حليف أوحد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، دافعة توجهًا تركيًا جديدا لموازنة محفظتها الدفاعية وكسر جمود علاقتها مع السوفييت، وتدخلت تركيا في قبرص محملة بترسانة هجينة بين الأسلحة الغربية والسوفيتية والمحلية، غير مبالية بالاعتراض الأمريكي أو الحظر الذي فرضته واشنطن.
ورغم مسلسل الخذلان والحرب الباردة التركية الأمريكية خلال سنوات التحالف الطويلة، لا سيما ملف العلاقة مع إيران والحرب على الإرهاب وأحداث 11 سبتمبر، مثّل الربيع العربي، والملف السوري على وجه الخصوص، نقطة الافتراق الكبرى في مسار العلاقات التركية الأمريكية مع التجاهل الأميركي المتعمد للمطالبات والمخاوف التركية، بداية من تراجع واشنطن عن خططها للإطاحة ببشار الأسد، وتجاهلها مقترح تركيا للمنطقة العازلة، وصولا إلى الاختلاف طويل الأمد حول دعم المقاتلين الأكراد على الحدود السورية، لتأتي محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف عام 2016م وتطلق رصاصة الرحمة، فبخلاف الرؤية التي تبناها بعض كبار المسؤولين الأتراك حول تورط مسؤولين كبار في البنتاغون وحلف الناتو في دعم الانقلاب، فإن رفض واشنطن المتكرر لطلبات الحكومة التركية لتسليم فتح الله كولن، أسهم في تعزيز الموقف التركي المتشكك الذي بدأ في التحول تدريجيا من خلاف مع حليف سياسي إلى خط ثابت من السياسات المضادة لأميركا في المنطقة.
بصرف النظر عما يمكن أن تسفر عنه الأزمة الراهنة، ومن سيكون قادرا على فرض رهاناته نهاية المطاف، فإن الوصول إلى هذا المستوى من العلاقات والتهديدات المتبادلة هي علامة على الانحدار المستمر في العلاقات بين البلدين، فالأسس الراسخة للعلاقة بينهما تعاني تآكلًا متزايدًا في الوقت الذي تشق فيه أنقرة طريقها بعيدة عن المظلة الأمريكية، وقد تولي وجهها شطر المشرق والعدو اللدود التاريخي (روسيا)، إن لم يكن على طريق الشراكة الكاملة والاستعاضة بها عن واشنطن، فلجهة جعل الأخيرة تلهث وراء إعادة نسج حبال المودة والتحالف التي أسهمت إدارة ترامب في تقطيعها!