فلسطين أون لاين

"طارق" و"ولاء" في بيت واحد بعد 10 سنوات من الأسر

...
غزة/ يحيى اليعقوبي:

العمر لا يتوقف، تبقى عقارب الساعة تدور، كما في هذه القصة التي جمعت الأسير المحرر طارق حلس "33 عاما" بخطيبته ولاء الدرساوي "24 عاما"، قبل عشر سنوات عقدا حفل الخطوبة وكانا يستعدان لعقد مراسم الزفاف، رفعت ولاء عنوان الوفاء وقالت لخطيبها بعد اعتقاله من قبل الاحتلال "حستناك العمر" كانت كلماتها تلك مفتاح الصبر لطارق حينما تلقت أول اتصال منه بعد عام من الأسر.

جلسنا ببيته بحي الشجاعية شرق مدينة غزة كانت والدته وخطيبته يرتديان الثياب التراثية الجميع هنا يشعر بالفرحة، حتى الجدران خطت عليها عبارات تهنئ الأسير المحرر طارق حلس بمناسبة تحرره من سجون الاحتلال في الأول من آب/ أغسطس 2018م، ورفعت أعلام فلسطين ترفرف فوق منزله لينعم طارق بالحرية من جديد، لكننا هنا نفتح هذه القصة ونعود بالزمن إلى ما قبل عشر سنوات.

أربعون يوما ولقاءان

في شهر يونيو/ حزيران 2008م، فاتح طارق والده بأنه يريد الزواج من ابنة جيرانه "ولاء"، قابل الوالد ذلك بسرور وبارك لابنه حسن اختياره، يعيش طارق في حديثه لنا ذلك المشهد مرة أخرى: "كان موضوع الموافقة على الزواج قرارا مهما، انتظرته ببالغ الصبر فكنت أتمنى القبول، خاصة أن سبب استعجالي في الزواج هو الاختيار نفسه ..ولاء".

ولاء هي الأخرى التي انتظرته طيلة هذه السنوات ما زالت تحفر اللقاء الأول في جدار قلبه، وكانت تنبشه نار الشوق كلما جلست وحيدة بينها وبين نفسها تفكر في خطيبها فتقول "وافقت على الخطبة رغم صغر سني، لأن والدي كان يحبه وكان حسن السمعة والأخلاق".

لا تنسى أول هدية أحضرها لها خطيبها، وكان هاتفا محمولا وباقة ورود "جوري" مختلفة الألوان قطفها من بستان منزله، ما زالت تحتفظ بها إلى الآن، لعلها كانت تشتم رائحتها كلما نظرت إليها، البعض لا يكرر مشاهدة المواقف الجميلة كثيرا لكثرتها، لكن مشهدا واحد في حياة ولاء جعلها تعيده في مخيلتها مرات ومرات.

بعد اتمام مراسم الخطبة، طارق يطرح سؤالا تلقائيا وعلى غير العادة على خطيبته "لو سجنت حتستنيني؟"، رغم أن ولاء تفاجأت بالسؤال إلا أنها لم تطل الرد "بستناك العمر كله".

كان الجميع سعداء ينادون على طارق "يا عريس" مرت أربعون يوما على مراسم الخطبة، وبعدها بدأت الترتيبات لعقد مراسم الزفاف، لحظات جميلة انتهت بشكل غير متوقع ومفاجئ للجميع، اعتقل طارق من قبل الاحتلال في الثاني من آب/ أغسطس عام 2008م، وتحول الفرح إلى حزن وفراق وانتظار.

بعد يومين من الاعتقال، وصل نبأ اعتقال طارق إلى ولاء التي كانت تتجرع مرارة فراق آخر بعد استشهاد خالها، جاء والدها وهو الأسير المحرر عماد الدردساوي وضع يده على وجهها وقال لها "ارفعي راسك، طارق أسير يعني بطل بدك تكوني فخورة فيه"، كانت تلك الكلمات تعطيها شجاعة وأمل وتفاؤل فوالدها الذي عاش تجربة الأسر تفهم الموقف، ونقل تجربته لابنته، وتعترف "لم اعتبر بأن عمري سيضيع من الانتظار، وأنني سأكبر وأكمل دراستي وهذا أفضل من الزواج المبكر"، ومع ذلك كانت تخشى أن تنتظره العمر كله.

كانت تجربة الاعتقال الأولى لطارق في سجن "عسقلان"، مكثف في التحقيقات 35 يوما، يغوص في تلك التفاصيل "كانت أياما صعبة، استخدموا معي أسلوب التعذيب النفسي، بعد أن قدمت نيابة الاحتلال لائحة اتهام ضدي مجملها تتعلق بمقاومة الاحتلال وإطلاق قذائف صاروخية، والذي عقد موقفي هو وجود اعتراف من شخص ضدي على ذات التهم".

أيقن بعد تلك اللائحة أنه سيمكث عدة سنوات في الأسر، "حاولت نفي التهم لكن الظروف كانت أصعب" يقول.

عام وأخبار منقطعة

مر عام على الاعتقال والأخبار والزيارات عن طارق لولاء كلها منقطع باستثناء رسالة تصلها منه كل أربعة أشهر، وقلبها الذي تركته معه في القضبان لينقل لها أحاسيسه هناك حيث لا يسمح حتى لأشعة الشمس من المرور عبر نوافذ السجن، أما هي فكانت تقف على شرفة الأمل تراجع صورته، تحاول تجميع تفاصيل وجه لشخص لم تره سوى مرتين بعد الخطبة.

"توقعي بأن يأتي لك اتصال من طارق بأي وقت، يجب أن تكوني سعيدة ولا تبكي حتى ترفعي من معنوياته" حاول والد ولاء بهذه الكلمات تهيئة ابنته، وبالفعل جاءها أول اتصال من خطيبها بعد عامه الأول في الأسر، من أعماق ذاكرتها تستعيد هذا الموقف الذي ما زالت تحتفظ بكل تفاصيله "عندما اتصل طارق بي، استغرقت أول مكالمة ربع ساعة، بمجرد أن سمعت صوته خفق قلبي من الفرحة، لكنني مررت بلحظة ضعف وكنت سأبكي لولا أن تذكرت كلمات أبي".

- بستناك العمر كله

قالتها ولاء بعد دقائق من ذلك الاتصال، "ولاء أخرجتني من أجواء صعبة عشتها في الأسر، وجعلتني أشعر بالتفاؤل والأمل" يعلق طارق.

طوال فترة الأسر كان طارق يرى ضحك ولاء في نبرة صوتها، ولا يسمع صوت دموعها التي كانت تخفيها عنه، لكن ما عقد الموقف هنا هي تعامل المحكمة الإسرائيلية مع القضية، استمرت خمس سنوات دون إصدار حكم، بل تارة تخبر فريق الدفاع عن طارق بأن الحكم سيتراوح بين "15-21 عاما"، لكنها أصدرت حكمها في النهاية بالسجن عشر سنوات وكان الحكم في العام الخامس من اعتقال طارق.

زيارة بعد 5سنوات

ماذا عن الزيارات؟

(طارق) يرد: "كنا نسمع عن أهمية الزيارة من الآخرين ولا نعرف قيمتها الحقيقة وتأثيرها على أرض الواقع إلا عندما عشنا تجربة الأسر والزيارة فوصفها صعب".

استمرت سلطات سجون الاحتلال بحرمان أسرى قطاع غزة من زيارة عائلاتهم منذ عام 2007م، وحتى إضراب "الكرامة" الذي خاضه الأسرى عام 2012م وأضربوا عن الطعام لمدة 29 يوما وكان احد المطالب الأساسية السماح لهم بالتعلم الجامعي، وزيارة الأهل وهذا ما تحقق بالفعل.

أصبح عمر ولاء 19 عاما بعد صدور قرار السماح بزيارة أهالي الأسرى، "كنت أشعر بالخوف من الزيارة ومترددة لأني ذاهبة عند اليهود".

وفي غمرة التفكير والتردد اتصل بها خطيبها ..

- ولاء؛ بدي إياك تيجي بالزيارة.

استجابت لكلام خطيبها، ولم تستطع النوم لشوقها لرؤيته، وهي تسأل نفسها "هل بقيت تفاصيل وجهه هي، أم غيرتها سنوات الأسر"، وخرجت مع الحافلات لأول مرة بعد تجاوز اجراءات التفتيش "والذل" كما تصفها، ووصلت إلى السجن متعبة من مسافة الطريق.

تلك الزيارة كذلك رسمت كل تفاصيلها في دفتر الذكريات وتعترف ..

- شعرت بمجرد رؤية طارق في المرة الأولى بأنني في عالم آخر، نسيت المسافة الطويلة والتعب.

كانت عيونها تبرق بالدموع لم تتخيل هذه اللحظة التي تأخرت لخمس سنوات أن تأتي، "أوعي تبكي" تذكرت كلام والدها حبست دموعها قسرا، بدأ الخطيبان بالحديث لأول مرة، يشاهدان بعضهما لكن العازل الزجاجي يفرقهما، بدأت ولاء خجولة تخطف النظرات لتطبع صورة وجه خطيبها الجديدة في مخيلتها، وبعدها استمرت الزيارات كل شهرين تهون عليهما مرارة السجن.

تقول ولاء وهي ترسم لوحة من سعادة على وجهها وهي ترتدي ثوبا تراثيا أبيص اللون "أجمل شيء في الزيارة رغم التعب والمشقة هي الدقائق الأولى وأصعب شيء عند انتهاء مدة 60 دقيقة المسموحة، فيتم اغلاق المكالمة من طرف السجان، كانت بالنسبة لي مثل انتزاع الروح".

- كنا نستمر بالنظر لبعضنا بالإشارة بعد اقفال الاحتلال لسماعة الهاتف

الزيارة الأخيرة

كيف استطعتم الاتصال الدائم طيلة فترة العشر سنوات؟ لا يخفي الأسير المحرر قائلا: "لم نترك أي وسيلة اتصال، إلا وحاولنا استخدامها رغم الصعوبات الكبيرة، وكذلك مساعدة الأهل ودعمهم لنا فكانت والدتي بمثابة أم حقيقية لولاء".

المحطة الأصعب في حياة الأسير كانت وفاة والده الذي كان سندا له وهو في الأسر وما زاد صعوبة الموقف هو وفاته بنفس تاريخ اعتقال 2 آب/ أغسطس عام 2012م، ليبقى الجرح يجتمع ويتجدد كلما تذكر هذه المناسبة التي لن ينساها، فحرمه الاحتلال من الزفاف، وحرم والده من شعور الفرحة بحفل زفاف ابنه البكر، الشيء الذي لا يحب تذكره هو الإضرابات عن الطعام فقد شارك في ثلاثة إضرابات وهي إضراب الكرامة عام 2012م، وإضراب خمسة أيام احتجاجا على قمع الاحتلال لأقسام الأسرى عام 2015م، وإضراب "الحرية والكرامة" عام 2017م واستمر 42 يوما.

درس طارق "التاريخ" في سجن ريمون وحصل على شهادة البكالوريوس من جامعة الأقصى عام 2016م، ومرت الأيام والسنوات حتى كان طارق وولاء مع موعد مع آخر زيارة قبل الإفراج عنه بشهرين.

لم تكن الزيارة الأخيرة عادية بالنسبة لولاء، لأنها لن ترى بعد ذلك السماعات والزجاج العازل يقف حاجزا بينها وبين خطيبها، "أنا راجع" كانت لهذه الكلمة وقع كبير في قلبها وبدأ الأسير يحدثها عن تخطيطه بعد الحرية فقال لها "سنرى بعضنا كل يوم حتى نتزوج ، وسنفطر يوميا مع بعضنا في بيت أهلك، ونسهر حتى المساء ونعوض ما فاتنا من أيام خلال العشر سنوات".

وهكذا نسدل الستار على قصة من قصص الوجع الفلسطيني عنوانها الانتظار، فولاء و الأسير المحرر طارق حلس الذي أفرج عنه في 1 آب/ أغسطس 2018م، تزوجا مؤخرا بعد عشر سنوات ربما في فترة خطوبة هي الأطول على مستوى العالم، لم تكن بمحض ارادتهما بل أجبرا عليها.