في ذلك الركن المنسي من العالم، حيث يتوقف الزمن وتتحول الأنفاس إلى عبءٍ ثقيل، لم يكن الصمت في معتقل “سيدي تيمان” مجرد غياب للصوت، بل جدارًا سميكًا من العزلة يطوّق الروح قبل الجسد. هكذا يستهل الأسير المحرر رامي أبو زبيدة شهادته عن أيامٍ عاشها مع عشرات الأسرى، معصوبي الأعين، مكبّلين بالأصفاد الحديدية التي غرزت أنيابها في المعاصم، فيما انكمش الكون من حولهم ليغدو بمساحة جسدٍ مُقيّد، وعالمٍ لا يُرى منه سوى السواد.
العالم خلف جدار الصوت
يستعيد أبو زبيدة تفاصيل الانقطاع الكامل عن العالم الخارجي؛ فلا إذاعات، ولا صحف، ولا رسائل، ولا خبر يطمئنهم على ذويهم. كانت وسيلتهم الوحيدة لمعرفة ما يجري خارج جدران المعتقل هي أصوات الطائرات الحربية، وهي تمزق سكون السماء بمعدنها الصاخب. هناك، في محيط غزة، كان الأسرى يسمعون زئير الطائرات قبل لحظات من اهتزاز الأرض تحت أجسادهم المنهكة، ولم يكونوا بحاجة إلى مذيع أو نشرة أخبار ليعلموا أن القطاع يُقصف؛ إذ كانت قلوبهم ترتجف مع كل انفجار، ودموعهم تنهمر بصمت، محمّلة بسؤال واحد: هل ما زال من نحبهم على قيد الحياة؟
حين يصبح الذكر جريمة
ولا يقف القهر عند حدود القيود الجسدية، بل يتجاوزها إلى استهداف الروح نفسها.
يروي أبو زبيدة أن ذكر الله كان محظورًا، وأن الجهر بالدعاء أو حتى تحريك الشفاه بالاستغفار يُعد جريمة تستوجب العقاب والتنكيل. كما مُنع الأسرى من المصاحف، فعاشوا لأكثر من شهرين وهم يقتاتون على ما حفظوه في صدورهم من آيات، يتلونها سرًا، كمن يهرّب النور خفية إلى زنازين غارقة في الظلام.
اللحظة التي انهمر فيها النور
بعد شهرين ونصف من الحرمان، وقعت لحظة غير متوقعة، حين سُمح بإدخال القرآن إلى البركسات، في مشهد وصفه أبو زبيدة بأنه شكل من أشكال “المنّ السادي”. لم تكن الدموع التي انهمرت آنذاك علامة ضعف، بل فيضًا لأرواحٍ كادت أن تجف، فارتوت بذكر الله. غير أن هذا “السماح” جاء مشروطًا وقاسيًا: مصحفٌ واحد فقط قُدّم لمئةٍ وعشرين معتقلًا.
آية واحدة لـ120 روحًا
مئة وعشرون نفسًا كانت تتوق إلى آية واحدة فقط. كان الأسرى ينتظرون أيامًا طويلة، يعدّون الساعات والدقائق، ليحظى كل منهم بلحظة يلمس فيها المصحف ويقرأ ما تيسر من كتاب الله. ورغم ضيق الوقت، وقسوة الحرمان، وتزاحم الأجساد المتعبة على نسخة واحدة، يؤكد أبو زبيدة أن تلك الآية كانت كافية لترميم ما تحطم في الداخل.
انتصار الروح على الجلاد
في تلك اللحظات، تلاشى السجّان، واختفت جدران “سيدي تيمان”، وشعر الأسرى بمعية الله تحيط بهم. بكوا جميعًا، لا حزنًا على القيود، بل فرحًا لأنهم لم يُتركوا وحدهم في غيابات الجب. لقد أراد الجلادون لهم الجحيم، فحوّلوا ذكر الله إلى جنان، وأرادوا لهم الذل، فصنعوا من شوقهم للقرآن عزةً لا تكسرها قيود الأرض.
شهادة لا تطلب تعاطفًا بل صدى
وتُختتم الشهادة بنداءٍ إنساني مباشر، يحمّل القارئ مسؤولية أخلاقية تجاه هذه الأصوات التي حاول السجّانون خنقها، مؤكدة أن مجرد التفاعل هو صدى لصوتٍ أُريد له أن يصمت، ونورٍ حاولوا إطفاءه، لكنه ظل حيًا في قلوب مئةٍ وعشرين أسيرًا ومصحفٍ واحد.

