هل كان المناضل الفلسطيني يظن أنه بدخوله السجون الصهيونية سيدخل في عداد الأرقام المنسية من قيادة السلطة، إلا من الشعارات التي ما أخرجت من السجن أسيرا؟ وهل كان أحدٌ يظن أو يساوره الشك بأنه سيأتي اليوم الذي سيخوض فيه الأسرى الفلسطينيون في السجون الصهيونية إضراباً عن الطعام احتجاجاً على قطع السلطة الفلسطينية عنهم مستحقاتهم المالية؟
إن الاجابة الاكثر قرباً للمنطق الديني والوطني يجب أن تكون " لا " فالأسير هو مناضلٌ وليس بقاطعِ طريقِ، وليس سفاكاً للدماء، بل هو ضحى بحريته من أجل حرية الوطن، وقضى زهرة شبابه وهو يفتخر بأنه يخدم دينه وبلده، ونحن كشعبٍ فلسطيني نعتبر قضية الاسرى من القضايا المقدسة فلا يكاد يخلو بيت إلا وبه شخصٌ تعرض للأسر، وننطلق في تعاملنا مع الأسرى من منطلق اسلامي ،فحينما قال الرسول عليه الصلاة والسلام " أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني "، سار الذين آمنوا معه وبعده على ذات النهج قديماً وحديثاً متفقون على أن فداء الأسرى واجبٌ وإن لم يبق درهم واحد، ويجب فك الأسرى من بيت المال .
لكن ما يحدث الآن من ممارسات السلطة تجاه الأسرى وغيرهم خارج عن المألوف الديني والوطني، فالأسير الذي هو تاج رأس الشعب الفلسطيني وكنزه الثمين، أصبح لدى القيادة مجرد رقم يتم ذكره في الخطابات الرنانة من أجل دغدغة مشاعر الجماهير، ويخوض اضراباً عن الطعام احتجاجاً على قطع السلطة الفلسطينية عنه مستحقاته المالية .
فمن يتابع قضية الأسرى يلحظ أن اهتمام السلطة بالأسرى قد اقتصر على التقاط الصور مع الأسير حينما يخرج من السجن، بينما في الحقيقة فإن سيف الإهمال الرسمي قد قطع رأس قضية الأسرى ، حيث خذلت السلطةُ الاسرى في أكثر من محطة ، ولعل أهم محطات الخذلان :
الخذلان الأول : أن قيادة السلطة تركت الأسرى في سجون الاحتلال يعانون، وبقيت تجلس مع العدو، فلو ربطت قيادة السلطة العودة إلى المفاوضات بشرط الإفراج عن أسرى لهم وضعٌ خاص مثل الأطفال والمرضى وكبار السن أو ممن قضوا أكثر من 15 عاماً في السجون، لكان خيرا لها ، فهذا أمرٌ منطقيٌ، بل ومقبول من ناحية قانونية وانسانية دولية، أكثر من فكرة ربط السلطة لعودتها للمفاوضات بضرورة وقف الاستيطان الذي قد يُنظر له من ناحية ايجابية عند من يدعم الكيان الصهيوني بأنه حاجة طبيعية لتلبية النمو السكاني اليهودي.
الخذلان الثاني : أن قيادة السلطة تدعي قولاً أنها تعمل على تحرير الأسرى، لكن الأفعال تكذب الأقوال، فنرى السلطة تمنع عن الأسرى رواتبهم التي هي وسيلة لإعالة ذويهم باعتبارهم فقدوا من يعيلهم بعد اعتقال ابنهم، وهي من باب الوفاء للأسير على نضاله ضد الاحتلال.
الخذلان الثالث : أن قادة من السلطة أفشلوا أكثر من مرة إضراب الأسرى ضد الإجراءات الصهيونية بحقهم من خلال استخدام العصا تارة، وتارة الجزرة، وطالبوهم بتعليق الإضراب كي يتسنى لها مساندتهم، وما أن علق الاسرى اضرابهم حتى بدأت رحلة التجاهل والنسيان.
الخذلان الرابع : لم أعلم يوماً أن اصطحب عباس في جولاته الخارجية أسرى محررين أو أهالي أسرى ليشرحوا معاناتهم للعالم مثلما تفعل حكومة الاحتلال التي توفر وتسخر كل الطاقات للحديث عن قضية أسراها لدى المقاومة وتصطحب ذويهم إلى محافل دولية لشرح قضيتهم.
الخذلان الخامس : أن السلطة وأنصارها روجوا لفكرة أن أسر شاليط كلفنا الكثير من الأرواح والممتلكات، ونسى هذا الفريق أو تناسى أن ما من وطنٍ تحرر من دون تضحيات، وأن الفرحة التي رُسمت على وجوه الشعب الفلسطيني يوم صفقة وفاء الأحرار، قد أزالت كل الألم الذي سكن في نفوسهم .
الخذلان الخامس : هو ما حدث مؤخراً حيث تم اقالة عيسى قراقع من رئاسة هيئة شئون الأسرى والمحررين لأنه انتقد سياسة قطع الرواتب عن الأسرى.
الخذلان السادس: : بعد تشكيل حكومة التوافق عام 2014 فإن أول خطوة اتخذتها الحكومة هي إلغاء وزارة الأسرى وتحويلها إلى هيئة الأسرى والمحررين ، وها هي الآن تمهد لتحويل الهيئة إلى جمعية أهلية مثلها مثل جمعية أصحاب الدواجن .
وهنا قد يقول قائل ، إن العبرة ليست بالأسماء، بل بالأفعال ،وإننا طالما نهتم بهم ،فسنهتم بهم تحت أي مسمى ولن نتخلى عنهم، من حيث الشكل، فهذا مما لا بأس به، لكن من حيث الجوهر ، فإن إلغاء الوزارة ثم إلغاء الهيئة وتحويلها لجمعية أهلية يدخل ضمن خطة لتصفية قضية الأسرى ومنع أي صوت يدافع عنهم، وأسأل: هل إلغاء هيئة شئون الأسرى هو بسبب كذبة اسمها " أزمة مالية " أم أن سيد البيت الأبيض يريد ذلك، ولو افترضنا أن سبب الإلغاء هو أزمة مالية، ألا يمكن تقليص نفقات مؤسسات وشخصيات تأكل من موازنة السلطة الشيء الكثير ؟ ولنفترض أن ترامب يريد ذلك، ألهذا الحد من الهوان وصلنا؟
هنا تستحضرني قصة أنه في أحد اللقاءات مع أحد قادة حماس قال إن عباس في بداية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط قال : (يا حماس هاتوا الصبي اللي عندكم نسلموا على ايرز وقولوا عني عميل وخائن) تصوروا لأي مستوى وطني واخلاقي متدهور وصل رئيس السلطة؟.
أخيراً: وجب التأكيد أن من يزعم أنه يحمل هم الأسرى، عليه احترام تضحياتهم قولاً وفعلاً، أما أن يتغنى ببطولاتهم في النهار، وفي الليل يذبحهم بسيف الإهمال ومنع حقوقهم عنهم، فهذا من أعظم الخيانات، ومن أعظم الخيانات هي أن تترك أسيراً في السجن دون أن يأسرك القلق في كيف تخرجه من دهاليز الظلام إلى حيز الحياة الرحب ؟ وإن من أعظم الخيانات أن تترك أهل الأسير يتوسلون لك وأن تعطيهم ما يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء، رغم أن ذلك حقٌ لهم، واجب عليك، وليس منة منك .
أيها الأسير الفلسطيني في السجون الصهيونية، حتى وإن تركك أهل السلطة، فإن رجال المقاومة والأنفاق لا يزالون على العهد وإن شاء الله ترى النور عما قريب.