صناعة الإدراك ليست حرفة اعتباطية، ومهنة الإعلام ليست مزاولة تلقائية، وإن كان ما من ممارستهما بّد فلتكن بالشكل المؤثر المطلوب، ولما كانت المصداقية عاملًا جوهريًّا في تقبل الجمهور للرسالة، وبغيابها لن يحقق المضمون أهدافه؛ فبناؤها ومراكمتها والحفاظ عليها مطلب وجودي لأي وسيلة اتصالية، ومن الأساليب التي تستجيب لهذه المصداقية ما يطلق عليه اسم "خفض سقف التوقعات"، الذي يعني تهيئة الجمهور لما هو أسوأ، كي لا تضرر سمعة الجهة الاتصالية حال تنبؤها بالأفضل.
ولنأخذ مباحثات التهدئة الجارية مثالًا لتوضيح أهمية الأسلوب عمليًّا؛ فالوسيلة عندما تتبنى استنتاجًا سوداويًّا مسبقًا تجاه المباحثات تعمد إلى مطالبة الجمهور بعدم رفق سقف توقعاته، ودعوته لتجنب اعتناق تفاؤل مفرط حيال نجاح المسعى، الذي يُحتمل فشله، وهنا تتعمد الوسيلة انتهاج نوع من الإجراء الاتصالي الوقائي، الذي يرمي إلى احتواء حالة الإحباط التي قد تنشأ، حال تصادمت أماني الجمهور والنتائج؛ فالوسيلة تتبنى أجندة يومية ترفض توقع الأفضل، خشية أن يثبت العكس، فتتأثر مصداقيتها لدى الجمهور، لذلك من الأسلم لأي جهة إعلامية تبني تغطية متوازنة تميل إلى التركيز على مسببات الفشل المتوقعة، أكثر من إبرازها عوامل النجاح.
على الجانب الآخر تقتضي المصداقية ما هو أكثر من خفض سقف التوقعات، فهي تتطلب أيضًا الابتعاد عن استخدام أسلوب "الإيهام بالإجماع"، الذي يعكس صيغة دعائية مزيفة هدفها إيهام القارئ بأن رأيًا أو قرارًا أو سياسةً تحظى بإجماع وقبول جماهيريين عارمين، والحقيقة عكس ذلك تمامًا، ويتجلى هذا الأسلوب في العديد من الممارسات الإعلامية اليومية، مثل استخدام كلمات دالة على حالة إجماع (نحن، ومعظم، وغالبية)، أو توظيف نتائج إحصائية بشكل مُضلل... إلخ، ولما الجمهور الفلسطيني بغالبيته متعدد الانتماءات، ولديه من الأفكار والمعتنقات الخاصة ما يفوق قدرتنا على الرصد؛ فالأفضل تجاهل استخدام هذا الأسلوب، ومحاولة صياغة رسالة إقناعية تستجيب لهذا التنوع، وبذلك يحفَّز سلوك جماهيري اتصالي دائم، يُقبل على الوسيلة الإعلامية، ويجعلها على رأس قنواته المفضلة.
وفي نقطة أخرى شديدة الأهمية، كونها تعكس واقع حالنا الإعلامي، لابد للوسيلة الاتصالية التي ترغب في تقديم نفسها وسيلة جادة، وصاحبة مصداقية متعاظمة؛ أن تتجنب إعداد أو نشر مواد اتصالية من شأنها الاستهزاء بالآخر، أو تقلل من شأنه، ولما كان المجتمع الفلسطيني مُستقطبًا إلى درجة غير مسبوقة؛ فالممارسة الواعية تستلزم تجنب صيغ التنكير، أو السخرية، بغض النظر عن شكلها الذي قد تظهر به (مكتوبًا، أو مرئيًّا، أو كاريكاتوريًّا ...)، والحكمة من وراء ذلك تخفيف حدة الاستقطاب القائمة، التزامًا بالوظائف الملقاة على عاتق وسائل الإعلام، ويقف "التوازن" على رأسها.
وأخيرًا، المصداقية هامة في الممارسة الاتصالية، وتجاهلها يقود إلى جملة مشكلات، ليس أقلها إعراض الجمهور عن الوسيلة، ورفض اقتنائها، أو عدم تصديق ما تقدمه من معطيات ومعلومات، ودعونا لا ننسى أن من أهم شروط الإقناع: المصداقية، فمن فقدها لسبب ما صار من المستحيل شراء بضاعته، وإن عكست كل الحقيقة.