بينما لا يستغني الإنسان في كل مكان عن احتياجاته الأساسية من أمن ومأكل وملبس، ولوازم العصر التي غدت ضرورية، كالطاقة بأنواعها، والأدوات الكهربائية، ووسائل النقل الحديثة، وخلافه، إلا أن كل شعب وقع تحت الاحتلال أَدرَك أنه لن يتنعم بهذه النعم الأساسية والضرورية ما بقي الاحتلال جاثماً على أرضه، متحكماً في مقدراته، وثرواته، وحرية أبنائه. هنا تقفز إلى أعلى سلم الأولويات: الحاجة إلى التخلص من الاحتلال بأي ثمن، ولذلك وجدنا كل شعوب الأرض الذين وقعوا تحت نير الاحتلال قد ضحوا بمئات الآلاف، بل الملايين من أبنائهم من أجل الخلاص من الاحتلال. الذي يقدِّم روحه رخيصة في سبيل الانعتاق من الاحتلال؛ لن ينتظر مسكناً، ولا مصادر طاقة ولا أدوات، فكل شيء أصبح لا قيمة له ما دامت حرية الإنسان مستباحة.
عندما يكون الوطن مستباحاً ومحتلاً، تتجه كل الجهود الوطنية لدفع المحتل، وطرده. وفي هذه الحالة تستقر قيَم ومعايير وطنية تجعل من كل مفرِّط في جزء من الوطن، أو جزء من حرية شعبه، أو جزء من مقدرات وطنه، أو متعايشٍ مع المحتل؛ مقرٍّ له على احتلاله، خائناً يستحق الإعدام. ويصبح للوحدة الوطنية معنى لا تتجاوزه؛ هو الالتفاف حول هدف طرد المحتل والخلاص التام منه.
بالقدر الذي ينجح فيه أي احتلال في صرف اهتمام الشعوب الواقعة تحت احتلاله نحو احتياجاتهم الحياتية، من مأكل ومشرب ومسكن وتنافس في الأموال، وتباهٍ في الممتلكات، وحرص على الكماليات، بالقدر الذي يطيل فيه أمد احتلاله، والعكس صحيح. إن مؤشِّر الإقبال على بضائع المحتل؛ خطيرٌ، ويشير إلى ضياع القيم الوطنية، وتساوي الوطن مع المحتل في نظر هذه الشعوب. وبالقدر الذي يدرك الناس مآرب عدوهم في صرفهم عن أهدافهم الوطنية العليا، فيُقدِّمون مقاومتهم للمحتل على أية احتياجات أو ملذات يطلبها الناس في العادة؛ بالقدر الذي يحققون فيه النصر على عدوهم، لأن مَن انتصر على نفسه وشهواتها، أمكنه الانتصار على عدوه.
وعندما ترى الناس مشغولين عن عدوهم المحتل لأرضهم، يتصارعون على الوظائف والمناصب، والامتيازات، ويحرصون على اقتناء بطاقات VIP والضجر الشديد على فقدان فرص السفر أو نقص الاحتياجات الأساسية، ويبنون ما لا يسكنون، ويتسابقون إلى الملاهي، وإحياء الحفلات الماجنة، والإدمان على أنواع التدخين، والكثير الكثير من مظاهر الترف والفتور والانحراف والتعلق بالدنيا والاستمتاع بالمحرمات، والتلذذ بمنتجات عدوهم المحتل لأرضهم، فاعلم تماماً أن الهزيمة قد استقرت في قعر نفوسهم، وأن التحرير والعودة ليس من اهتماماتهم، ولن يتحققا في حياتهم إلا أن يتغمدنا الله برحمته.
إن أولويات الإنسان الفلسطيني في هذه الأيام، وإلى أن يتخلص من الاحتلال (الإسرائيلي) لأرضه بالكامل، فإنها يجب أن تنحصر في طرد المحتل، وعدم الانشغال فيما هو دون ذلك مهما تفلسف المتفلسفون.