تناولنا في الجزء الأول من المقالة عددًا من استراتيجيات الدعاية (الإسرائيلية)، وأوضحنا من خلال الأمثلة، كيفية تطبيقها على المستوى الإعلامي، دون أن نتطرق لأشكال اتصالية أخرى. وفي هذا الجزء، سنتحدث عن كيفية مجابهة الدعاية (الإسرائيلية)، وطرق الحد منها. ولكن قبل أن نبدأ، لا بد من الإشارة إلى حقيقة جوهرية، في كون الدعاية جهدا إنسانيا اتصاليا مستمرا، يستهدف أنظمة المعرفة لدى الجمهور، بكل فئاته؛ لذا من الصعب الوقوع على حلول تحدّ من خطورتها بشكل كامل. ونتيجة لهذه الحقيقة، اتفق الباحثون والمتخصصون على جملة من الإجراءات التي تخفف من آثارها، دون القضاء عليها بشكل كلي. ولأننا نتناول حالة دعائية متطورة، فمواجهة الدعاية (الإسرائيلية) تتطلب الأخذ بالمقترحات الآتية:
تحقيق مركزية اتصالية:
مجابهة الدعاية (الإسرائيلية) تتطلب أولاً، وعلى المستوى التنفيذي، توحيد الأذرع الاتصالية، وتنظيمها بطريقة مركزية هرمية، تتلقى توجيهاتها عبر هيئة مُعينة، تخط إستراتيجيات الدعاية المضادة، وتفرض أسلوبها وتكتيكاتها على الكل الاتصالي. وقد يتساءل البعض عن خلفية المطلب، ومدى تعارضه مع مبدأ السوق المفتوح، وتجسيده لدكتاتورية تخدم أفكارًا بعينها على حساب أخرى. وهنا أقول: إن المركزية المطلوبة لا تسعى لتقييد حرية الإعلام، بقدر ما تُعنى بتنظيم وتوحيد آلية اشتغاله. فلو تمعنا في الحالة الفلسطينية، لن نعجز ملاحظة الفوضى الاتصالية القائمة، وتعدّد المنابر الإعلامية، التي تعكس لأفكار ورؤى متصارعة، تخدم عدونا على حساب نضالنا الوطني. فما ندعو إليه، أقرب من الناحية التطبيقية للرقابة (الإسرائيلية)؛ التي تجمع بين صيغتي حرية الممارسة، وضرورات الأمن القومي. وأهمية المركزية بالنسبة لنا، تتجلى في ضبطها للممارسة الاتصالية خلال تناولها لقضايا محددة، كموضوعات الانقسام، والمقاومة، والخلافات السياسية...إلخ. فهذه القضايا تحتاج إلى رقابة، وغيابها سيغذي الدعاية (الإسرائيلية)، ويخدم جهودها على المستوى السياسي.
جهود فضح:
لا يمكن مواجهة أي دعاية إلا عبر كشفها وتحديدها للجمهور. وتُعتبر جهود الفضح حيوية للحد من التأثيرات المحتملة للدعاية، لما لها من تداعيات خطيرة حال غيابها؛ لذلك، فتوعية الجمهور بأهدافها وطرقها وأساليبها، أساسية في نجاح جهود الحملات المضادة. وفي أوكرانيا، على سبيل المثال، أطلقت مؤسسات المجتمع المدني، موقعا مخصصا لكشف الدعاية الروسية هو Stopfake.org، يهتم بفحص المعلومات، للتأكد من صحتها، ثم فضح المزيف والمضلل منها. بدورها، قامت دائرة الإجراءات الخارجية في الاتحاد الأوروبي بتشكيل فرقة عمل، مهمتها إعداد ونشر مراجعة أسبوعية The Disinformation Review، تعرض من خلالها أدلة وأمثلة على حملات التضليل التي تشنها روسيا سواء داخل أوروبا أو خارجها. وبمراجعة حالتنا الفلسطينية، نلاحظ غياب مثل هذه الجهود، إلا من صيغتها الفردية غير المنسقة، مع غياب منظومة عمل منسقة، تمتاز بالاستمرارية. وجدير بالذكر هنا، أن جهود الفضح لا تقتصر على شكل اتصالي معين، بل ترصد جميع وسائل (إسرائيل)، وتحلل جميع ما تقدمه من معطيات، لتقوم بفضح تلك الدعائية، مع تقديم تفسيرات لأسبابها وأهدافها. ومن الجيد تبني مبدأ "كل ما يصدر عن العدو هو دعاية ما لم يثبت العكس".
رواية مضادة
في كثير من الأحيان، يُنظر لجهود الفضح بكونها قاصرة أو غير قادرة لوحدها على مواجهة الدعاية، خاصة وأنها قد تعمل على ترسيخ أطروحاتها لدى الجمهور، لاعتبارات نفسية تتعلق بانتقائية المستهدف وسلوكه مع الوسيلة. ونتيجة لذلك، من الضروري تبني أسلوب الرواية المضادة، نظراً لقدرته على خفض تأثير الدعاية، من خلال تقديم وجهة نظر أخرى، تعكس الواقع الحقيقي. وإعداد رواية مضادة يتطلب تحقيق عدة شروط، كفهم سيكولوجية الخصم، وتحليل طبيعة التفاعلات الاجتماعية والثقافية والسياسية داخله، مع اعتماد طرق وأساليب حيوية، كالتحدث بلغته، والابتعاد عن المصطلحات التي لا تتوافق وثقافته، وتقديم نماذج وأمثلة من تجربته، والتنويع في قوالب وأشكال الرواية. ومن الضروري هنا الحرص على ألا تناقض الرواية المضادة نفسها، أو أن تُنظم بشكل يناقض الحقائق على الأرض. فالموضوعية، والشفافية مطلوبتان لتحقيق استجابة سريعة، أو أن تؤسس مستقبلاً لحالة من المصداقية لدى جمهور الخصم.
جهود توعية:
يرى بعض المختصين، أن مواجهة الدعاية عملية مرهقة، لذلك طرحوا فرضية تحصين الجمهور بشكل مسبق، عبر تأهيلهم بشكل يمكنهم من تحديد المعلومات المزيفة أو الحملات المضللة التي تستهدفهم. والحقيقة، أن مثل هذه الجهود قديمة، فقد تبنتها لجنة Creel الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية. وفي حالتنا الفلسطينية، تتطلب جهود التوعية بالدعاية (الإسرائيلية) ما هو أكثر من "محو أمية"، من خلال تزويد الجمهور بالمهارات والقدرات اللازمة لرصد الدعاية والتعرف عليها، إضافة إلى إيجاد رغبة أو ميل نفسي إلى تفعيل هذه القدرات. فالمطلوب ثقافة نقدية، تعكس لمجتمع مُطلع، يعقد مهمة الدعاية (الإسرائيلية). فالفرد المثقف قادر على تفنيد الإشاعات، ويستطيع التصدي لها لحظة بروزها. ويستحضرني في هذا المقام، نموذج Stony Brook، المخصص لتثقيف الجمهور بسبل الدعاية. فهو يساعد على تحديد الفرق بين المعلومات الإعلامية وغيرها من أنواع المعلومات، والصحفيين وغيرهم من مزودي المعلومات، والفرق بين الخبر والرأي، إضافة إلى التمييز بين التوكيد والتأكيد، والدليل والاستدلال، ناهيك عن تقييم وتفكيك التقارير الإخبارية استنادا إلى نوعية المعلومات المقدمة وموثوقية المصادر...إلخ.
وأخيراً، مواجهة الدعاية (الإسرائيلية) تتطلب المزيد، كما تستحث تضافر جهود جمعية، وما عرضناه يشكل أساساً بنيوياً يمهد لخطوات إضافية في هذا المضمار، خاصة وأن الدعاية علم واسع، ويحتاج إلى تأهيل مكثف. ولكن أن تأتي متأخراً، خير من ألا تأتي مطلقاً.