إن الاستبداد إذا حلّ بأمة من الأمم، فأقرأ عليها السلام، واعلم أن حضارتها مدمرة، وعمرانها مخرب، وثقافتها محرفة، ولا شفاء لها منهم، إلا بتدمير عرش المستبد، وتقويض أركان بنيانه، وتغيير آثاره المهلكة في كل ناحية من نواحي الحياة.
والاستبداد لا يعيش ولا ينمو إلا في بيئة سيطر عليها الجهل، ونما فيها الوهم، والوهم سلاح الاستبداد الأقوى، وأعظم جنده، ومتى تخلص منه انتهى الاستبداد إلى غير رجعة، فنور الحقيقة يغطى على ظلام الوهم، لذلك ترى المستبد يسعى إلى إبقاء ظلام الوهم بكل قوة، وإخفاء نور الحقيقة، ولا يهنأ له عيش، إلا إذا بنى الأوهام، وأقام عليه الحراس، وأخفى نور الحقيقة، بأسوار الوهم وجدران الجهل.
ولم تبتلى حضارتنا الإسلامية بمصيبة كمصيبة الاستبداد، ولا بأوهام كأوهام المستبدين، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، ولم يتركوا جانب من جوانب تميز حضارتنا إلا طمسوه بجهلهم، وظلمهم، وبغيهم.
وكلما عظم الوهم، عظم الاستبداد، وزاد الطغيان، ولننظر إلى حال شعوبنا اليوم، كيف يشغلها المستبدون بأوهام على إنها إنجازات؟ وكيف يقنعون شعوبهم باستبدادهم بوهم الاستقرار؟ وخراب العمران برحليهم عن الديار، وضياع البلاد بتخلي الشعوب عنهم، وهذا أعظم استغله المستبدون قديمًا وحديثًا، فالخوف من الفتنة والذي تشكل في وعي أمتنا بفعل الفتنة بين الصحابة والاقتتال بينهم، كان أكبر وهم سيطر به المستبدون طوال تاريخنا، ونشأ بسببه فقه المتغلب الذي أباح الاستبداد وشرعه.
وثورات الربيع العربي نجحت في بدايتها بكسر وهم الخوف من المستبد، ولكنها لم تنجح في نهايتها جراء سيطرة وهم الاستقرار على عقول الناس، وإن الإستقرار يتحقق بالمستبد وطغيانه، وأن شعوب منطقتنا لا يلائمها حرية إختيار الحاكم ومحاسبته إذا أخطأ، وبالرغم من الكوارث والمصائب التي يجلبها الاستبداد على البلاد، إلا أن وهم الإستقرار والخوف من خراب البلاد أقوى في نفوس الناس من كل ذلك، ولم يدري هؤلاء أن الاستبداد أكبر مخرب للبلاد، ومدمر لمقومات الحياة فيها، فلا حياة مع الاستبداد، ولا أمان ولا إستقرار، وكل ما يبدو على السطح إنما وهم يغذيه المستبد ليخفي أثاره المدمرة، ونتائجه السيئة.
وأول عدو علينا مواجهته للتغلب على الاستبداد هو الوهم، ولا يظن أحد أنه عدو سهل هين، بل هو شرس ماكر متمكن من النفوس، متأصل فيها، لا يبرح منها إلا بهزات عنيفة من الوعي، بآثار الاستبداد ومصائبه، لذلك تجد المصلحين الراغبين في تغيير الحال، وتدمير الاستبداد، يحاربون بكل شدة أوهام المستبدين حول الاستقرار والأمان، ومدى الدمار والخراب الذي يلحق بالبلاد إذا هم ذهبوا.
وأشد أنواع الوهم، المغلف بالدين، والذي يقدم على أنه من الدين وما هو بالدين، لذا كان علماء السلطان أخطر الناس وأشدهم ضراوة على أمتنا، ولم أرَ مصيبة أصابت أمتنا بعد الاستبداد كعلماء السلطان، الذين يحرمون ما أحل الله، ويحلون ما حرم الله، ويتلاعبون بنصوص الدين، من أجل صالح المستبد، وحسب أهوائه ومصالحه، ولنا فيما يجري في السعودية في الوقت الحاضر خير دليل على ذلك، فعلماء السلطان الذين كانوا يضيقون على الناس ويتشددون عليهم في دينهم، أصبحوا فجأة متسامحين متساهلين في أمور الدين، وانتقلوا من النقيض إلى النقيض، وما هذا إلا لأن المستبد رغب في ذلك، واقتضت مصلحته أن ينتقل من التشدد في الدين إلى التساهل في أمره.