بعد حمد الله (عز وجل) والصلاة والسلام على رسوله (صلى الله عليه وسلم) نكتب المقال الرابع في فلسفة الصيام، وكنت قد أشرت سابقًا إلى أثر الصيام على سلامة الصدر وحفظ البصر واللسان، وفي هذا المقال ألفت انتباهك _أخي القارئ الكريم_ إلى الصيام وأثره من التخلص من البخل والشح، ولا أخال أحدًا من المسلمين إلى اليوم لم يسمع حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) الذي أخرجه الشيخان في وصف جود النبي (صلى الله عليه وسلم) وكرمه أنه (صلى الله عليه وسلم) كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أجود بالخير من الريح المرسلة، ولما يضاف هذا الحديث إلى عشرات الآيات والأحاديث التي جاءت مرغبة في الصدقة حاثة عليه مرهبة من الشح والبخل؛ ندرك جيدًا أن المرء المسلم لم يكن ولن يكون يومًا إلا سخيًّا كريمًا جوادًا معطاء لا عرف الشح والبخل له مسلكًا أو طريقًا، كيف يبخل وقدوته أجود الناس؟!، كيف يمنع سائلًا أو ينهره وحبيبه (صلى الله عليه وسلم) ما سأله سائل إلا أعطاه إن كان عنده، وإن لم يكن عنده أنظره حتى يأتيه فيدفع إليه؟!، وقد أخرج الشيخان هذا الموقف التربوي الذي رواه أبو سعيد الخدري (رضي الله عنه) أن أناسا من الأنصار سألوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فلم يسأله أحد منهم إلا أعطاه حتى نفد ما عنده، فقال لهم حين نفد كل شيء أنفق بيديه: "ما يكن عندي من خير لا أدخره عنكم، وإنه من يستعف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله، ولن تعطوا عطاء خيرًا وأوسع من الصبر"، ما أجمل هذه التربية لم يمنع سائلًا، ولكنه كان يحث على العفة وعدم السؤال.
وعودة إلى الصيام وأثره على النفس والتخلص من بخلها وشحها أكتب أن الصائم حينما يمسك عن الطعام والشراب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس هذه الساعات الطوال تجعله يفكر بمن عجز أن يوفرهما لنفسه، أو من يعيل سائر العام، فيجود شفقة ورحمة وإنسانية على أصحاب العوز والحاجة من الفقراء وغيرهم، وأيضًا حينما يتناول طعام الإفطار ويجد أن لقمات قليلة تسد جوعه، وأن ما يفضل على المائدة أكثر مما يؤكل؛ يندفع مرة أخرى أن يقلل من هذا الطعام على هذه المائدة، ويتصدق بما فضل وزاد، مستحضرًا توجيه قدوته (صلى الله عليه وسلم): "من كان عنده فضل زاد؛ فليعد به على من لا زاد له"، وتطبيقه العملي لذلك، فقد أثر أنه ذبح شاة ووزعهاثم سأل زوجه عائشة (رضي الله عنها): "ما بقي منها؟"، قالت: "ما بقي منها إلا كتفها"، قال: "بقي كلها غير كتفها"، إن هذين الحديثين حينما يضم إليهما الصائم جملة الآيات والأحاديث التي جاءت في سياق الترغيب في الإنفاق والحث عليه والتذكير بفضائله والترهيب من الشح والبخل والتحذير من عواقبه سيندفع مؤثرًا إخوانه على نفسه مقتديًا بمن أثنى عليهم ومدحهم لإيثارهم ربنا في سورة الحشر، وإن كان عاجزًا عن الإخراج فرضت عليه زكاة الفطر، لينال أجر الصدقة في هذا الشهر الفضيل ويتربى على العطاء، إن زاده الله من فضله، وبهذا يكون الصيام مدرسة تربوية عظيمة في التخلص من الشح والبخل والإيثار على النفس.