داخل إحدى غرف قسم الجراحة في مجمع الشفاء الطبي، يتخذ الجريح هشام السرسك (18 عامًا) مكانًا له، فجسده المنهك من شدة الألم جعله غير قادر على الحركة.
وأُصيب السرسك في قدمه اليسرى خلال مشاركته في مليونية العودة في 14 من مايو، وكانت جراحه خطيرة وفق تشخيص الأطباء، فقد غيبته عن الوعي وجعلته غير قادر على التواصل مع الآخرين.
يقول هشام لصحيفة "فلسطين" موضحًا حالته الصحية: "إصابتي في الركبة، وأنا تعبان جدًّا منها".. يفتح عينيه قليلًا محاولًا الاستعلاء على جراحه، وهو يستغيث وزارة الصحة وكل القلوب الرحمية بضرورة تسهيل سفره للعلاج بالخارج: "بدي أسافر وأتعالج".
لم يستطع السرسك مواصلة الحديث، حينها انهالت جدته بالبكاء حزنًا عليه، وهي تقول: "نطالب كل الأمة والدول العربية، بأن تنظر لنا بعين الرحمة والعطف في حالة هشام".
وتضيف: "استهلك قرابة 32 وحدة دم منذ إصابته، وقرر الأطباء بتر قدمه أكثر من مرة، لكننا رفضنا ذلك، أملًا بعلاجه في الخارج".
وتنظر الجدة إلى قدم حفيدها التي تلفها جبيرة بيضاء، و"البلاتين"، بحسرة وقهر: "شاب بعمر الوردة، يريدون بتر قدمه (..) أملنا في الله كبير بأن يُسمح لهشام بالسفر والعلاج في الخارج".
وتُكمل: "كلنا فداءً للقدس وفلسطين، ونحن ضحينا بأولادنا لأجل ذلك، لكن على المسؤولين في الصحة أن يضحوا من أجل شفائهم، بتسهيل الإجراءات اللازمة لخروجهم للعلاج".
آلام لا تتوقف
الآلام والأوجاع تخيّم على غالبية غرف قسم الجراحة تحديدًا، ففي الغرفة المجاورة يرقد الجريج عبد الله الأسي (28 عامًا)، بدا وجهه القمحي مرهقًا من الوجع فيما كانت الآهات التي يزفر بها لسانه أكثر ألمًا على من يجلسون إلى جواره وهو يرجوهم التحرك للعلاج بالخارج، وسط حالة من العجز عن تحقيق مراده.
ويروي الأسي لـ"فلسطين"، أنه أصيب في قدمه في أثناء وجود شرق غزة في مليونية العودة: "رأيت الموت بعيني، وحملت قدمي على صدري، ثم غبت عن الوعي". هكذا يصف لحظة إصابته بطلق ناري متفجر في الجزء السفلي من ساقه، ما تسبب بتهتك العظام والأعصاب بشكل كامل.
يقول بصوت بالكاد يسمع من الألم، إن الأطباء أجروا له ثلاث عمليات منذ دخوله المستشفى، ومن المقرر أن يخضع لعمليتين أخريين خلال الأيام القادمة.
ويستغيث الأسي، كل الضمائر الحية، لأجل الإسراع في إنهاء إجراءات السفر للعلاج في الخارج، سيّما أن والده يسعى لذلك وقد أنهى إجراءات عمل الجوازات اللازمة، وفق ما طلبت منه وزارة الصحة.
وختم حديثه برسالة ممزوجة بالحسرة "بدي أرجع أمشي على رجلي، وأعيش بين أحضان عائلتي وقرب زوجتي وطفلي".
في حين كان الحال في مبنى الجراحة التخصصي حيث بدت الإصابات هناك أكثر قسوة، ورغم ذلك لم تفارق البسمة شفاه الجريح هشام أبو عوكل (18 عامًا) الذي أُصيب بطلقين في الرأس في أثناء وجوده قرب السياج الفاصل في منطقة "أبو صفية" شرقي جباليا.
ويقُص أبو عوكل بعضًا من التفاصيل التي يستذكرها لحظة الإصابة: "باغتني الطلق الأول واستقر بجوار العين، ثم أطلق قناص إسرائيلي رصاصة ثانية فكانت في الجبين، حينها غبت عن الوعي".
مشهد قاتم خيّم على حالة أبو عوكل، سيّما أن الأطباء وصفوا حالته بالخطيرة فور وصوله للمستشفى، وكان التشخيص أنه فقد عينه بالكامل، فيما كان يرجح بعضًا منهم أنه قد فارق الحياة.
ويُكمل: "الحمد لله الذي شافاني وعافاني، وأصبحت أرى وأتكلم وأعرف من حولي"، لكّنه يحتاج إلى استكمال بعض الأدوية لإتمام الشفاء، وفق حديثه.
ويناشد أبو عوكل لضرورة توفير العلاج اللازم له، نظرًا للوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه عائلته بشكل يجعلها غير قادرة على توفير فاتورة العلاج إضافة إلى حاجته لإجراء جراحة تجميلية في الوجه.
حالات صعبة
ويصف أخصائي التخدير والعناية الحثيثة من الأردن د. جمال رحامي، وهو أحد أعضاء الوفد الذي وصل قطاع غزة للمشاركة بتطبيب جراح مصابي العودة، الإصابات بأنها صعبة، قائلًا: "تفاجأنا بالعدد الكبير والهائل من المصابين الذين وصلوا المجمع يوم مليونية العودة، وتركزت غالبية الإصابات في الأطراف السفلية".
وقدر وضع الإصابات ما بين فوق المتوسطة إلى حرجة، لافتًا إلى أن الرصاص يتسبب في تهتك ذوبان اللحم والأوعية الدموية والأنسجة وتفتت وتهتك العظم.
وبيّن رحامي أن صعوبة الحالات تحتاج إلى طاقم طبي متخصص كامل، سيّما أنها تستهلك معدات طبية وقدرات استيعابية عالية، مؤكدًا أن مستشفيات غزة لا تستطيع استيعاب هذا الكمّ من الإصابات.
ولفت إلى أن أبرز الصعوبات التي واجهتهم خلال العمل، هي الأعداد الكبيرة من الإصابات الخطيرة، في ظل نقص المعدات الطبية في مجمع الشفاء.
وذكر أن الوفد الطبي الأردني أجرى ما يقارب 50 عملية في الشفاء، و25 عملية في المستشفى الميداني الأردني.
وأوضح رحامي أنه جرى التنسيق بين المستشفى الميداني الأردني ومستشفيات غزة لإجراء عمليات في الأول للتخفيف من العبء الملقى على عاتق الأخيرة، حيث يجرى يوميًا قرابة 10 عمليات جراحية، فيما جرى تحويل حوالي 30 جريحًا إلى مستشفيات الأردن.
من جهته، قال العقيد الركن سلميان هلالات قائد قوة المستشفى الميداني الأردني- غزة 52، إن المستشفى استقبل ما يقارب 3 ملايين مريض من قطاع غزة منذ نشأته عام 2009، مشيرًا إلى أنه من أكبر المستشفيات الميدانية الموجودة في الإقليم.
وأوضح هلالات لصحيفة "فلسطين"، أن المستشفى مزود بطواقم طبية وفنية وإدارية، ويجري تبديلها كل شهرين، حيث يتم تزويده بالمستلزمات الطبية والعلاجية لاستدامة عمله، ويقدم العلاج مجانًا.
وبيّن أن المستشفى الأردني يعمل بالتنسيق مع مديرية الخدمات الطبية الملكية على استكمال علاج بعض الحالات التي يصعب علاجها في غزة، من خلال تحويلها للأردن.
وذكر أنه تم تفعيل أقسام جديدة داخل المستشفى، من ضمنها غرفتا عمليات مجهزتان بأحدث الأجهزة الطبية، إضافة إلى العيادات الموجودة سابقًا، مثل العيون والجراحة وغيرها.