فلسطين أون لاين

​في غزة.. مهن لا يعرف أصحابها دفء الشتاء

...
الابن إبراهيم يساعد والده في منطقته - تصوير عمر الإفرنجي
غزة - عبد الرحمن الطهراوي

ينهض محمد قدورة في الرابعة فجر كل يوم، ليتجه إلى عمله الدائم عند أحدى مفترقات شارع الثورة، وسط مدينة غزة، دافعًا عربة صغيرة للأمام بيدين خشنتين أرهقهما البرد القارس وعليها يحمل بضاعته من حلوى الكاسترد الغارقة في العسل.

وما بين الساعة الرابعة والثامنة صباحا ينشغل الرجل الخمسيني في تحضير حلوته ذات المذاق السحري، الذي ما زال يجذب الزبائن منذ 50 عاما بالتمام والكمال، بمساعدة جميع أفراد أسرته السبعة، فتلك المهنة هي مصدر دخل العائلة الوحيدة.

وبعدما تنتهي مرحلة سكب الحلوى داخل علب بلاستيكية متوسطة الحجم، يتشارك قدورة في تناول كوب من الشاي الساخن مع زوجته "أم إبراهيم"، قبل أن يغادر منزله نحو عمله المعتاد دون النظر إلى طبيعة الظروف المناخية.

ويعد قدورة (54 عاما) واحدا من أرباب مهنة لا تعرف الدفء في فصل الشتاء، فأصحابها يسعون وراء لقمة العيش الكريمة، سواء تحت زخات المطر الشديد والأجواء الباردة أو في ظل أشعة الشمس الحارقة.

علاقات صداقة

وعن العمل في فصل الشتاء يتحدث قدورة، قائلا: "تختلف جميع مراحل العمل ما بين فصلي الشتاء والصيف، ففي الأخير أذهب إلى العمل مع إطلالة أول شعاعات الشمس، أما في ظل الأجواء البادرة فأفضل الذهاب بعد الساعة التاسعة صباحا حفاظا على صحة الجسد".

ويضيف لمراسل صحيفة "فلسطين": تتراجع نسبة التحصيل اليومية خلال هذه الأيام، ورغم ذلك أفضل العمل في الشتاء لأسباب تتعلق بطقوس إعداد الحلوى وبيعها تحت المطر"، مبينا أن زبائنه طوال العام ينقسمون ما بين طلبة المدارس الأساسية والثانوية أو سائقي سيارات النقل العمومي، الذين نسج مع عدد كبير منهم علاقات صداقة.

وورث قدورة مهنة إعداد وبيع حلوى الكاسترد من عمه إبراهيم قدورة قبل 15 عاما، والذي اشتهر منذ منتصف الستينيات ببيع تلك الحلوى على عربة تجر يدويا على عجلات مطاطية سوداء، كان يجول ويتحرك بها في ذات المنطقة التي يقف بها الآن البائع محمد وعلى ذات العربة الصغيرة أيضا.

ومثلما ورث العم محمد أسرار الكاسترد الغارق في العسل من عمه الراحل، يسعى الرجل لنقل فنون المهنة إلى ابنه البكر إبراهيم بالتوازي مع تشجيعه على طلب العلم، فلا ضير لدى الأب بأن يجمع ولده بين "شهادة وصنعة" في خضم الظروف الحياتية المتقلبة.

أوجاع الشتاء

وفي ساحة مرفأ الصيادين، غربي مدينة غزة، كان الشاب رامي فوزي (23 عاما) يتجهز لإشعال مجموعة من الأعشاب الجافة والحطب بجانب بسطته الصغيرة، التي يبيع عليها المشروبات الساخنة بأنواعها للمتنزهين في الميناء رغم برودة الأجواء.

وبعدما أوقد فوزي لهيب ناره التي يستقوي بها على برودة الشتاء والرياح الغربية، أوضح لـ"فلسطين" أن عادة إشعال النيران هي التي تساعده على الاستمرار في العمل طوال أيام العام دون النظر إلى طبيعة الحالة المناخية، بل تشجع بعض الزبائن على الشراء منه دون غيره علّهم يقتنصون بعض الجرعات الدافئة.

وماذا تفعل عند هطول الأمطار يجيب الشاب العشريني: "أهرب نحو مظلة خشبية قريبة من هنا أما البسطة ذاتها فأغطيها بقطعة قماش مقوى، ولكن أنا اعتدت على ذلك فهي مهنتي منذ أن تركت المدرسة قبل ثماني سنوات، رغم أنها تتسب لي بأوجاع كثيرة في فقرات الظهر والعظام".

مهن أخرى

ومصادفة، كان يقف بجانب فوزي صديقه محمد عودة، الذي يعمل منذ عدة سنوات في بيع الكعك الطازج في شوارع وأزقة أحياء مدينة غزة، معطيا مهنته طابعا خاصة خلال الشتاء.

ويقول عودة: "سكان الأحياء التي اتجول بها في ساعات الصباح الباكر اعتادوا على سماع نغمة "يلا يا كعك.. أيوة السخن.. يلا يا كعك" فهي مهنة لا ترتبط بفصل محدد وزبائن الكعك سواء الصغير أو الكبير يرغب بتناوله يوميا".

ويسعى عودة، في مطلع عقده الرابع، من وراء علمه في بيع الكعك صيفًا وشتاء إلى مجابهة الظروف الحياتية القاسية بعدما حالت أوضاع القطاع الساحلي المحاصر إسرائيليا دون حصوله على فرصة عمل، مضيفا "بلف شوارع غزة على رجلي لأجمع كم شيكل، ولكن أنا مبسوط والحمد الله".

وإلى جانب العمل على البسطات المتنقلة وبائع الكعك الجوال، يوجد مهن أخرى يقاوم أصحابها لسعات البرد القارسة سعيا لتحصيل قوت يومهم، كبائع حبيبات الذرة الساخنة على امتداد شارع "الكرنيش" وكرجل المرور الذي يواصل عمله بتنظيم حركة السيارات والمارة غير عابئ ببرودة الطقس المصحوبة بهطول الأمطار.