تواصل الساحة الإسرائيلية انشغالها بمسيرات العودة في قطاع غزة، من حيث دلائلها السياسية على المستوى الأبعد. وبالإمكان حصر هذا الاهتمام الإسرائيلي بموضوعين أساسيين، يحظيان بِجُلِّ اهتمام السياسيين، والباحثين وصنّاع الرأي: الأول، حقيقة أن الفصائل المسلحة، وخاصة حماس في قطاع غزة، باتت ترى هي أيضا، أهمية المقاومة الشعبية العزلاء. وثانيا: أن قضية المُهجّرين الفلسطينيين (اللاجئين) عادت لتثور بقوة أشد، وبالذات على الساحة العالمية؛ مع تخيل سيناريوهات مستقبلية، بأن تكون العودة مستقبلا، من خلال زحف بشري، ستكون (إسرائيل) عاجزة عن صدّه.
لقد أثبتت تجارب الشعب الفلسطيني في وطنه، على مر عشرات السنين، أن الاحتلال، مهما تعاظمت قوته العسكرية، يبقى أضعف أمام المقاومة الشعبية العزلاء. وهذا ليس لأن جيش الاحتلال وآمريه، هم في غاية من الإنسانية، في مواجهة المقاومة العزلاء، وإنما لأن (إسرائيل) تتخوف من أن استخدام القوة العسكرية المفرطة، أمام متظاهرين عُزّل، سيضعها أمام ورطات على الساحة الدولية.
إلا أننا في الشهرين الماضيين، لم نلمس "حرجا إسرائيليا" في ارتكاب المجازر ضد المتظاهرين العُزّل، وبهذا الكم الرهيب من الشهداء؛ وهذا انعكاس للدعم الأميركي اللامحدود لتلك لمجازر. وفي حسابات الحُكم الصهيوني، خاصة لدى حكومات بنيامين نتنياهو، فإن الدعم الأميركي وحده، يلغي أي حسابات دولية أخرى.
وتخوّف (إسرائيل) في مسيرات العودة، من أن خيار المقاومة الشعبية قد بات خيار شبه الإجماع بين الفصائل الفلسطينية، كان دافعا لتشدد قبضتها أكثر، في محاولة لترهيب الجماهير الواسعة، وردعها عن المشاركة في المقاومة الشعبية. وفي المقابل راحت (إسرائيل) تجرّم الضحية، مع تركيز خاص للهجوم على حركة حماس، مستغلة الأجواء العالمية تجاه الحركات الأصولية. كما أن أبواق الاحتلال تلاعبت كثيرا بقضية الخلافات الفلسطينية الداخلية، بزعم أن ما يجري، يدخل في إطار التنافس بين القطاع والضفة. وما يجمع كل مزاعم الاحتلال هذه، هو إنكار كلي لحق الشعب الفلسطيني، وإصراره على التحرر، نحو الحرية والاستقلال والعودة.
والجانب الآخر لقلق الصهاينة، كما ذكر، هو أن مسيرات العودة، بعناوينها وزخمها الشعبي الواسع، أعاد الى جدول أعمال الحلبة الدولية، مسألة المهجّرين الفلسطينيين من وطنهم، وفي طنهم، رغم مساعي الصهاينة، بالذات في السنوات العشر الأخيرة، لشطب هذا الملف كليا من الأجندة العالمية، من خلال ضرب "وكالة غوث اللاجئين-الأونروا". وهذا الحراك تعاظم مع دخول دونالد ترامب وفريقه الى البيت الأبيض، وبات أكثر عدوانية. ومن المقلق أن أصواتا في جهات أخرى في العالم، باتت تدخل في هذا الثلم الصهيو- ترامبي، مثل وزير الخارجية السويسري، وغيره.
وكما ذكر طيلة الوقت، فإن الصهاينة يتوهمون بأن ما يحفظ قضية المهجّرين الفلسطينيين هي فقط "الأونروا"، التي تقدم خدماتها مباشرة، حسب التقديرات، لأقل من 20% من إجمالي الشعب الفلسطيني، بينما نسبة المهجّرين من الوطن، وفي داخل الوطن، حوالي 70 % من إجمالي الشعب الفلسطيني. ولكن عدا عن هذا، فإن سعي الصهاينة لضرب الأونروا، نابع أيضا من سعي لضرب اقتصادي، وفي حالة المستفيدين من خدمات الأونروا سيعني الأمر، تجويعا. فبهذا الشكل أيضا، يعتقد الصهاينة أن بإمكانهم القضاء على الشعب الفلسطيني.
وحسب ما كان ينشر من تحليلات إسرائيلية، في صلبها تقديرات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، أن جولة المقاومة الشعبية التي شهدناها منذ نهاية آذار (مارس)، لها جدول زمني، ولهذا هي ليست الانفجار الشعبي المتواصل. ولكن بالنسبة للاحتلال، فإن هذا مؤشر كبير للمستقبل، الذي بات منظورا بالنسبة لهم، وهو أن الإرادة الشعبية الفلسطينية تتعاظم من حين إلى آخر، وأن الانفجار الكبير قادم لا محالة.
وهناك تياران، ليسا متباعدين فكريا، من حيث عدائيتهما للشعب الفلسطيني، وتمسكهما بفكرهما الصهيوني الاقتلاعي. الأول، وهو الحاكم، الأشد شراسة، يسابق الزمن لفرض حقائق على الأرض بأقصى ما يمكن، للقضاء على أي احتمال صغير للحل. والفريق الثاني، يطلب انفصالا سريعا، حتى من دون اتفاق مع الطرف الفلسطيني، من خلال مزيد من جدران الاحتلال، ومحاصرة الشعب الفلسطيني أكثر؛ فالمهم بالنسبة لهم، أن لا تكون لكيانهم مسؤولية مباشرة عن الاحتياجات اليومية لحوالي 5 ملايين فلسطيني في قطاع غزة والضفة، وأن لا تجد الصهيونية نفسها أمام واقع "دولة ثنائية القومية".