مسيرة العودة الكبرى بددت أوهاماً كثيرة، وأظهرت حقائق كانت غائبة عنا، وأوضحت لنا مدى التمزق والتشتت الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني، وإن الشعب الفلسطيني لم يعد على قلب رجل واحد بل مشتت على قلوب وأهواء شتى، متفرق متقطع الأوصال لا يشعر شق وطن بالشق الآخر بل الكل يغني على ليلاه، وكأن فلسطين تخص الآخر دونه، وإن الذي يعانيه شق الوطن لا يعني الشق الآخر وليس داخل في اهتماماته.
إن هذه الحالة العجيبة الغريبة التي يمر بها الشعب الفلسطيني نتاج طبيعي لسنين طويلة من الانقسام، وزرع البغض بين شقي الوطن، وتحويل الأنظار عن العدو الحقيقي إلى عدو مصطنع، وتمكين الانقسام من أنفسنا لحد عدم شعورنا بالفلسطيني الآخر الذي يخالفنا في الرأي والحزب، واعتبار الذي يخالفنا عدونا وما هو بالعدو ولكن لكل إنسان طريقته ومنهجه الذي يعمل به ويتبناه ولا ضير في ذلك، فالله جل جلاله خلق الناس مختلفين ولو كانوا متماثلين لما استقامت الدنيا ولما وصل الإنسان إلى ما وصل إليه اليوم.
نعم نحن مختلفون وعلى هذا الأساس علينا التعامل، ولكن الانقسام البغيض حول الاختلاف بيننا إلى قطيعة وتفرقة وعصبية، وها نحن نحصد نتائج ما زرعنا في ثقافتنا وعقولنا، وسنحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت حتى نستطيع إعادة شعور الفلسطيني بالفلسطيني الآخر، ويا لها من مصيبة أن يفقد الأخ الشعور بأخيه وهي أقل المراتب التي يجب عليه أن يحفظها الأخ لأخيه فإذا فقدها فلم يعد بعدها شيء، فالتناصر والتكافل والتعاضد نتاج لشعور الأخ بأخيه ومتى مات الشعور مات كل شيء، فلا معنى للكلام المنمق والمبهرج.
حالتنا اليوم والتي كشفت عنها مسيرات العودة الكبرى بوضوح تحتاج منا إلى إعادة تقييم كامل لأولويتنا، وما الذي يجب علينا فعله؟ وما هي استراتيجيتنا لمواجهة الواقع المخزي الذي وصلنا إليه؟ وكيف نعيد الشعور الفلسطيني وإحساس شق الوطن بالشق الآخر ليتبعه التناصر والتعاضد والتكافل؟ ولا شك أن الاحتلال الإسرائيلي أسعد الناس بالحالة التي وصلنا إليها، فلو قامت مسيرات العودة في الضفة والداخل المحتل والشتات كما في غزة لأصبح الاحتلال في وضع لا يحسد عليه، ولواجه معضلة كبرى تهدد كيانه كله، ولكن للأسف الشديد انقسامنا جعل غزة كأنها الوحيدة المعنية بالقضية الفلسطينية والتي عليها أن تدافع عنها بكل عزمها، وماذا تستطيع غزة أن تفعل وحدها؟ وهي في هذه الحالة المأساوية والظروف المعيشية الصعبة وحالة الركود الاقتصادي التي يعاني منها القطاع.
يكفينا "تزويق" واقعنا وتجميله وهو ليس كذلك، فنحن عباقرة في تزييف الحقائق وتغيير الوقائع، وجعل القبيح جميلاً، وجعل الجميل قبيحاً، فالحال يغني عن المقال، والواقع يحتاج إلى مواجهة الحقائق لمعالجتها وتقويمها وليس العكس، وهذه هي الخطوة الأولى لتغيير حالنا وعودة اللحمة الوطنية والشعور الوطني من جديد بعد أن تاه في ركام الانقسام وتبعاته.