فلسطين أون لاين

​مقابل السياج الحدودي للاحتلال

ليالي "خُزاعة".. عيون ساهِرة وقلوبٌ يقِظة للعودة

...
خزاعة - حنان مطير

في مشهدٍ مهيبٍ على الحدود الشرقية من منطقة خزاعة جنوب قطاع غزّة، تسطّر العشرات من الرجال والشباب والأطفال في صفوف منتظمة متراصّين لأداء صلاة المغرب، فيما وقفت بعض الطّفلات في عمر السادسة تقريبًا متفرّجّات على حركات المُصلّين، ومن ثم تُعلّق إحداهن باندهاشٍ على صورةٍ التَقَطُّها لهم: "لااا مبينفعش تصوريهم وهم بيصلوا.." ثم تختفي الصغيرةُ في الظلام.

وكأن مهرجانًا كبيرًا يُقامُ في تلك المخيّمات، الحياةُ تدبّ فيها رغم حلول الليل، الباعة منتشرون في كل زاوية، فهذا يهش على أصابع الكباب وذلك يقلب الفستق المحمّص، وآخر يدور بائعًا للبرّاد والعصائر الباردة.

تَرى النساء في خزاعة بعضهنّ خارج الخيام يجلسن على مفارش أرضية وأخريات في داخل الخيام يُسيّرنَ حياتهنّ مع أطفالهنّ كما لو أنّهن في البيوت.

وفي زاويةٍ من المنطقة المخصصة للتجمهُر يرتكز خزّان ماءٍ كبيرٍ فوق "مشطاحٍ" خشبيٍ وصناديق بلاستيكية ضخمة، هذا يشرب فتتبلّل حفائف بنطاله، وذلك يتوضأ ليلحق بالمصليّن وآخر عيناه لا تفارقان المارّة وهو يملأ زجاجة ماء.

وفوق خزّان آخر، فتىً يحاول التسلّق للوصول لطائرةٍ ورقية صُنِعت بأوراق ملونة بألوان علم فلسطين، وقد علِقت في أسلاك الكهرباء، فيما صغيرات كُثر يستمتعن بالركض تارةً، وأخرى بالغناء.

ينتهي الشيخ رمضان الدّغمة (54 عامًا) من سكان بلدة عبسان الجديدة من الوضوء وقد تشبّثت قطرات الماء بلحيته البيضاء، ويقابلنا بابتسامةٍ طيبةٍ زادت في وجهه كثيرًا من البهاء.

شرف وعرض

يخبرنا أنه سعيد جدًا بتلك الخطوة التي اتّخذها الشّعب وانطلقت فيها مسيراتٍ مستمرة، وهي دليل على أنه موجود وإن مات الأجداد، موضّحًا أنه دائمًا ما يدعو أولاده للحفاظ على الأرض والتشبّث بها، معبرًا عن ذلك بأنها "شرف وروح وعِرض".

فيما الصغيرات نور وسارة وساجدة أبو دقّة ينشدنَ من حولِنا "هنا باقون.. في اللد والرملة والجليل.. هنا على صدوركم باقون، كالجدار، وفي حلوقكم كقطعة الزجاج، كالصبار، وفي عيونكم زوبعة من نار".

أما ابنة الروضة سلمى أبو دراز فتصدح بكلمات التحدي والعزّ "والله ما أقبل غير الهوية إسلامية وأرفع راية الإسلام فوق القدس الأبيّة".

وبقوة ينشد الطفل أحمد القرا: "قسمًا سأضحي بدمائي لأروي أرض الكرماء، قسمًا، قسمًا فالنصر لنا، والفجر يطل من الظلم..".

مذاكرة

فيما تتربّع الصبيّة إيمان أبو إسحاق الطالبة في منتصف المرحلة الثانوية في إحدى خيام العودة المنصوبة شرق خزاعة، تُمسِك بين يديها كتابًا وتهزّ بظهرِها إلى الأمام وإلى الخلف، وقد علّقت فوق رأسِها مباشرةً "كشّافًا" يضمن لها إضاءةً ورؤيةً جيّدة، فالعتمةُ ملأت سماء خُزاعة فيما النور والأمل بالعودةِ يُشعّ في قلوب المشارِكين في مسيرات العودة الكبرى على الحدود مع الاحتلال الإسرائيليّ، كما يشعّ في قلب إيمان وفق تعبيرها.

وتقول لـ"فلسطين": "يافا عروس البحر هي بلادي الأصليّة التي لابد وأن أعود إليها يومًا، فتلك الجميلة لن تكون للمحتلّ الإسرائيليّ يتنعّم بها، لقد آن الأوان للعودة".

ماذا عن الكتابِ بين يديك؟ تبتسم وتقول: "كتاب التكنولوجيا، أذاكر فيه قدر المستطاع فغدًا عندي امتحان في تلك المادّة".

وتشارك إيمان في مسيرات العودة ما استطاعت وسمحت ظروفُها الدراسيّة خاصة، لكنها أصرّت هذه المرّة على القدوم رغم امتحانِها، لمشاركة جدّتها أم خالد الرّقب في أعمالِها، وفق حديثها.

وتضيف: "تأتي جدّتي لتصنع للشباب المشاركين في مسيرة العودة ولكل من يحضر خبز الصاج مع العديد من النساء اللواتي لا يتوقّفن عن العجن والخبز وإشعال نار الحطب".

وتتبع: "شعرت بلهفة جدّتي لهذا الأمر وحبّها في إطعام الشباب والأطفال فقلتُ أساعِدها وأنال شرف المجاهدين بإذن الله معها".

الابتسامة لم تكن لتغادر شفتي إيمان، فهي ترى أن وجودَها في تلك الخيام ومشاركتها مسيرات العودة الكبرى أمرٌ عظيم يرفع من معنوياتِها كثيرًا ويُشعرِها بقرب تحقيق حلم العودة ليافا.

عودة رغم الإصابة

وكان الشاب عزّت شتات (23 عامًا) من سكان مدينة خانيونس ممرضًا جاء متطوعًا برفقة أول فريق تمريضيٍ إلى الحدود الشرقيّة من بلدة خزاعة جنوب قطاع غزّة، يشارك في مسيرات العودة كباقي الشباب، لكنه أضاف على مشاركتِه لمسةً إنسانيّة بحكم تخصصه في التمريض.

أُصيب شتات في جمعة "الكوشوك" الثانية من مسيرات العودة لكنه عاد في نفس اليوم ليكمل عمله في مساندة الشباب وتطبيبهم.

يروي لـ"فلسطين" بعد أن حُقِن -حالًا- ببضعةٍ من الحقن علاجًا لإصابتِه وقد ارتدى "اللاب كوت" الأبيض وما تزال "الكانيولة" ملصقةً في معصمِه: "في تلك الجمعة أصيب أحد الشباب وهو أسامة قديح بطلقةِ قنّاص في رأسِه وكان حينها يقصّ السلك الحدودي للاحتلال، فتفجّر الدّم من رأسِه كنافورة، كان المشهد مؤلمًا مبكيًا ويدلّل على قدر الوحشية المتزايد للاحتلال".

لم يحتمل شتاتَ المشهد وهرع إليه لنشله، وغطّى مكان الإصابة بكوفيةٍ كان يرتديها الشهيد، وفي تلك اللحظات استهدفَ الاحتلال شبات بثلاث قنابل من الغاز أُلقيت باتّجاهه، وفق قوله، فسقط.

يقول: "فقدت الوعيَ لمدة أربع ساعاتٍ، وكانت إصابتي عبارة عن تمزّق في القدم والفخذ، وتمّ نقلي للمستشفى وتقديم اللازم لي، لكنني عُدت إلى الحدود لمواصلة عملي بمجرّد أن عدت لوعيي وقد أسعفتُ عددًا من المصابين".

ويضيف: "في تلك الأجواء الثوريّة لا مجال للتوقّف، والعمل والمساعدة هما التفكير الوحيد والأول الذي يتملّكنا حتى آخر نفس فينا".

ويصف: "أعود للبيت فأجد نفسي قد عُدت لمخيمات العودة من جديد".

مرةٌ أخرى يُصاب شتات بأزمةٍ صحيةٍ نتيجة ضربات الغاز التي أصيب بها فيفقد وعيه بين أصدقائه مساءً ويُنقل للمستشفى، ويعود صباحًا للحدود كالعادة، كما يقول، معتبرا ذلك واجبًا تجاه الشباب والإخوة وتجاه البلاد وأقل واجبٍ تجاه حق العودة.

شرف المشاركة كالرجال

وتشارك شتاتَ والفريق التمريضي الشابةُ نرجس زعرب، هي الأخرى جاءت متطوّعة لتشارك في مسيرات العودة الكبرى، معبرة: "الشباب ليسوا أفضل منا، هم يشاركون ونحن أيضًا، فهذا شرفٌ من حقنا أن ننالَه مثلهم".

وتوضح زعرب، التي لا تكفّ في بيتِها عن الاستماع للأغاني والأناشيد الوطنية والثوريّة، أن أمها وأباها وإخوتَها أيضًا شديدو القلق عليها لخروجِها وطول مداومتها في خيام العودة لإسعاف المصابين، لكنها لم تتوقّف عن القدوم، ولن تفعل، فمتعة المشاركة ونيل الشرف بالعمل تطوّعًا شعور لا يضاهيه شعور، و فق قولِها.

وتذكر أنها في بداية عملِها في إسعاف المصابين كانت تشعر بشيء من الخوف والقلق، لكنها اعتادت الأمر ولم يعد يقلقها شيء، بل كلّ همّها كان أن تقدم العلاج وتسعف المصابين وتساند المشاركين بكل ما أوتيت من طاقةٍ.

ومن بني سهيلة جاء جهاد البريم (34 عامًا) برفقة أصدقائه ليؤكّد أحقيته بالعودة للديار، يلتفّون حول إبريق شاي على نار الحطب، ويتحدّثون عما سيفعلون في كل يوم.

يروي البريم أنه لا يفارق خيام العودة وأحيانًا كثيرة ينام فيها، مؤكدًا أنه باقٍ للأبد ما دام الحق الفلسطيني مسلوبًا.

ويقف محمود النجار (40 عامًا) والذي يعمل في شرطة الدّوريات بقرب دراجته الناريّة مراقبًا الأمور بهدوء ودقّة موضّحًا أن الحشود الكثيرة لم تُسبّب أية حوادث أو مشاكل وما قد يحدث يكاد لا يُذكَر، معبّرًا: "تلك المسيرات مباركة لأنها شعبية وفيها كل الأطياف المجتمعين على أمل وحلم واحد وهو حلم العودة الذي يوحّد الجميع".

ويكمل: "لذلك لم نجد أحدًا مَعْنيًا بإحداث بلبلةٍ أو مشكلة ما، فكانت جميع الأمور بفضلِ الله على ما يُرام رغم أن الكثيرين يسهرون في الخيام لمنتصف الليل وبعده".

فخزاعة التي دكّها الاحتلال عام 2014 ما تزال تحيا، وتسهر، وتغنّي، وتحلم، حتى يتحقّق الحلم الأكبر بعودة البلاد ودحر الاحتلال.