بعد انطلاق مسيرة العودة الكبرى التي تركت صدى كبيرًا في أروقة السياسة، وجعلت الساسة يعيدون حساباتهم من جديد، بات الشعب أكثر وعيًا بدوره، فصار أكثر حرصا في تحركاته.
لقد اثبتت مسيرة العودة الكبرى أن الشعب الفلسطيني شعب ثوري بالفطرة، فبمجرد ما أن يمس عمقه شيء ما، لا يجنح للصمت، بل يبتكر الطرق التي يعبر فيها عن حجم الألم، لكن دون تأوه بانكسار أو خنوع. فمنذ فجر التاريخ وهذا الشعب يعيش حالة الثورة، حتى أصبحت جزءا من جيناته ومكوناته، فلا يمكن لكائن أيّا كان أن يهجن جيناته؛ لتصبح قابلة للتسليم والاستسلام، ولا يقبل بأن يكون هامشا، يتحدث العالم عنه، ويسيرونه بجهاز تحكم يدعى "الساسة".
أثبتت مسيرة العودة الكبرى بتكتيكاتها البسيطة أنها قادرة على أن تحدث الفرق الذي لم تستطع سنوات من السلام المزعوم أن تحدثه. أثبت أبناء غزة أنهم قادرون على أن يتحدوا بصدورهم العارية مجنزرات ودبابات ورصاص، بل وجه الغزي أنظار العالم نحو وجه الصهيوني القبيح، الذي يستخدم القوة مع أناس عزل يطالبون بحقوقهم.
لقد فتح هذا الشعب الثائر ملف العودة الذي كادت بعض الأيادي أن تغلقه، وتتمم صفقة القرن، وتصدر فرمان المصالحة؛ لتثبت للعالم أن كل شيء تم على مرأى الجميع وباتفاق الجميع.
أما الشعب الذي ابتكر جمعة الكوشوك، التي أحدثت ضجة حول طبقة الأوزون، في حين كان الشعب الغزي يرتق ثقب الكرامة الذي أصاب طبقة الأمة العربية. هذا الشعب الذي احتفل بعضه بزواجه بزفة أقيمت على الحدود، ووضع بعضهم على سيارة الزفة عجل كاوشوك، وألحقه بهاشتاغ "#جمعة_الكاوشوك"، صعب أن تهزمه السياسات المغرضة، وصعب أن يهزمه حصار لو خضع له أي شعب آخر هذه المدة؛ لخرّ راكعا.
إن ما يحدث على الحدود هو ثورة نوعية، ثورة سلمية تحميها النفوس الساخطة، تحميها الأرواح التي تقدم في سبيلها؛ كي تبقى مشتعلة. لا يمكننا أن نتحكم في الطرف الآخر، فندعوه إلى عدم إطلاق الرصاص، لكننا نستطيع أن نتحكم في ثورتنا، فنضفي عليها ألوانا تشيد بها، وترسمها في أجمل صورة، كثورة راقية تحتوي معارض تراثية وأمسيات ثقافية تزيد من الوعي المجتمعي بالقضية.
لقد حافظ الغزيون حتى هذه اللحظة على مبدأ المسيرة ألا وهو السلمية بالدرجة الأولى، كما استطاع أن يحافظ على رباط جأشها بعد أن تناثرت الدماء في ساحات مخيمات العودة، واستطاع الغزيون أن يثبتوا قدرتهم على التعاطي مع صوت الشعب وإرادته وتنحية الخلافات السياسية جانبا.
لقد بلغ من نجاح هذه الثورة الشعبية أن تحاول الكثير من الجهات السياسية أن تعزز مكانتها في المسيرة، بل وتحاول أطراف أخرى أن تنسب لنفسها الحروف الأولى للمسيرة، لكن هذا كله يصطف جانبا؛ ليبقى صوت الشعب هو الأقوى، ولتبقى حناجر البسطاء تندد بالظلم والحصار، وتطالب بحقها في وطنها، وتذكر العالم بأنها لم تنس، ولن تنسى.
شعب ثوري أثبت جدارته، وأثبت أنه يستحق الحياة، فالناس تثور على الظلم بالفطرة فيه، لا تحتاج أن يتحكم بها؛ كي تطالب بحقوقها.