فلسطين أون لاين

​صورة واحدة قد تُخلّد اسمك في صفحات التاريخ

أحمد ديب.. المصور الذي آخى بين الوجع الفلسطيني والسوري

...
صورة أرشيفية للمصور أحمد ديب
غزة - عبد الرحمن الطهراوي

_"خيو ..عم بقوصوا علينا، يلا ننزل".

رد المصور أحمد ديب على أبو نضال (أحد مقاتلي الجيش السوري الحر)، قائلًا:

_"يلا يلا بدي آخذ صورة لـ ..".

لم يكمل أحمد إجابته حتى دوى صوت انفجار عنيف تبعه زخات من الرصاص المتفجر..

_"القناص كشفنا.. شباب شباب غطوا علينا يلا أبو حميد".

يصيح "أبو نضال" على المجموعات المسلحة؛ طالبًا تنفيذ غطاء ناري كي يتمكن من مغادرة المنزل الذي حوصر فيه برفقة "الفلسطيني" في حي الهزازة شمال سوريا.

وبعد قرابة الـ 15 دقيقة تمكن الشابان من الإفلات من الحصار الناري، إلا أن أحمد أصيب بكتفه الأيسر بشظايا طلق قناص تابع لجيش النظام السوري لازم على إثرها سرير الشفاء لأيام قبل أن يعود لاستكمال مسيرته، بعدما علم أن الموت قد يكون أقرب إليه من عدسة كاميرته.

"فلسطين" عبر اتصالٍ هاتفي تواصلت مع ديب من مكان إقامته "مدينة غازي عنتاب التركية"، لتتعرف منه إلى بعض تفاصيل تجربته في عالم الكاميرا وكيف تآخت غزة وسوريا في الوجع.

نبذة تعريفية

ولد الفوتوغرافي أحمد عماد ديب في مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين شمال قطاع غزة, وتعود أصول عائلته إلى قرية يبنا التي هجر منها أهلها في نكبة 1948، درس الابتدائية والإعدادية في مدارس وكالة الغوث إلى أن تخصص في مجال الإذاعة والتلفزيون بجامعة الأقصى.

شغفه بالتصوير خرج من رحم حبه لأعمال الحاسوب، ففي سنوات طفولته الأولى مارس العمل على برامج المونتاج والتصميم الجرافيكي وأثناء تجهيزه لأعمالٍ سياسية متعلقة بالصراع مع الاحتلال الإسرائيلي كانت تستوقفه جمالية الصور متسائلًا: "كيف ألتقط هذا المشهد؟".

نال ديب (26 عامًا) عدة جوائز منها ثالث أفضل مصور صحفي في جائزة الصحافة الاستقصائية المنظمة من قبل مؤسسة "Thomson" عام ٢٠١١ عن صورة التقطها لأسير محرر ومبعد إلى غزة يلتقي بخطيبته بعد ١٨ سنة من الفراق وعقب الإفراج عنه في صفقة تبادل الأسرى بين "حماس" و"إسرائيل".

وكذلك حصد المرتبة الأولى في جائزة رابطة مراسلي الأمم المتحدة عام ٢٠١٢ عن صورة من الحرب الإسرائيلية الثانية على القطاع، ورشح لجائزة صورة العام من قبل منظمة يونيسيف، وإلى جانب ذلك شارك في عدة معارض محلية ودولية، أهمها كان في دولة جنوب أفريقيا وفرنسا.

اكتشاف العالم

المصور أحمد، الذي صادف يوم أن تحدثنا إليه أنه كان يجهز لألبوم عن مظاهر احتفال الأتراك بالسنة الميلادية الجديدة، حدثنا عن بداية علاقته بالكاميرا قائلًا: "اكتشفتُ العالم الفوتوغرافي قبل 15 عامًا بنفسي عندما بادرت بشراء كاميرا صغيرة ذات فيلم تستعمل لمرة واحدة، استعملتها من أجل التقاط الصور العائلية والمناسبات السعيدة".

بدا صوته قادمًا من بعيد، وهو يضيف: "كانت عائلتي تشجعني على ذلك الطريق فطلبت ذات مرة من عمي المقيم في ألمانيا إرسال كاميرا رقمية لي وبالفعل حصلت على "Nikon L 10"، رحتُ أصور مشاهد طبيعية ومواقف يومية وبعض جنازات شهداء انتفاضة الأقصى، ثم التحقت بالعديد من دورات التصوير، فلم أكن أبلغ الثامنة عشرة حتى صرت مصورًا معروفًا محليًا".

عمل ديب بعدها على تقديم عدة دورات في مجال التصوير والمونتاج بجانب العمل لصالح مراكز محلية والمشاركة في إعداد وإخراج أفلام وثائقية عن حياة السكان المدنيين في ظل الحصار الإسرائيلي الذي فرض منتصف عام 2007، قبل أن تندلع شرارة الحرب الأولى على غزة مطلع 2009.

منذ اللحظات الأولى للحرب أيقن ضيفنا أنه أمام مهمة صعبة هي الأولى من نوعها في توثيق جرائم الاحتلال، بما يتوجب عليه امتلاك الجرأة الكافية للوصول إلى مكان الحدث في الوقت المناسب والخروج بصورة تحكي الحكاية أو تكشف بشاعة مجزرة ترتكب هنا أو هناك.

يتابع ديب: "عملت في تلك الأيام لصالح وكالة بريطانية "ديموتكس" فسجلت مشاهد القصف والخراب، وبعد انتهاء الحرب ركزت على إظهار تأثيرات الحرب والحصار المشدد على الأطفال في مختلف مناطق القطاع مع تصوير الحياة اليومية للاجئين في المخيمات اللجوء".

توأمة الجرح

ويكمل بمزيدٍ من الفخر بهذه الهواية المحببة إلى ذاته: "لقد تعلمتُ من ميدان الحرب أن الانتماء إلى عالم فرسان الكاميرا يتطلب تطوير مهاراتي الذاتية وامتلاك معَدات عمل متطورة وإن كانت شحيحة وغالية الثمن آنذاك، وكان من ثمار ذلك الجهد المكثف بعد التجربة الأولى أن أصبحت صوري تنشر في صحف عالمية كـ"نيويورك تايم"، وول ستريت جورنال، والجارديان البريطانية".

رغبة المصور العشريني في خوض تجارب عملية جديدة دفعته إلى الطرح على إدارة وكالة "UPI" التي عمل لصالحها عام 2012، فكرة السفر إلى سوريا وتغطية الأحداث الجارية هناك وبالفعل وافقت الوكالة الأمريكية على مبادرة أحمد الذاتية.

يعلق ضيفنا: "وصلت إلى سوريا في سبتمبر/أيلول، لأجد أن واقع المأساة يفوق الذي كنت أتخليه، فرأيتُ الموت في كل مكان وعائلات تعيش في خيام منتشرة بمناطق قاحلة خالية من كل مقومات الحياة الأساسية، وفي وسط تلك المعاناة كانت حكايات الأطفال العلامة الأبرز، فقد باتوا بلا حاضر ولا مستقبل ووحده الماضي الدموي سيكون باقيًا لهم".

"وما الفارق بين تغطية الحرب الإسرائيلية والثورة السورية"، أجاب أحمد بصوت متأثر: "علامات التشابه تفوق صور الاختلاف، فالموت واحد والمدنيون هم المستهدفون في الحالتين، ولكن نحن الفلسطينيين يقتلنا عدونا, أما هم (السوريون) فكانوا يتساءلون بحسرة: لماذا يقتلنا جيشنا الوطني بالرصاص الذي كنا ندفع ثمنه؟".

وتابع بحرقة: "قد تجد عائلة أبيدت عن بكرة أبيها؛ أبيدت مثل ما حدث مع عائلة السموني في حي الزيتون، وأخرى هدم بيتها فوق رؤوس أفرادها دون سابق إنذار مثلما حدث مع عشرات العائلات الغزية خلال الحروب الثلاث، وقد تجد طفلًا كتبت له الحياة بعدما علق لأيام تحت ركام منزله، وآخر نجا من الموت بمفرده".

وعما أضافته تجربة "التغطية السورية" قال: "على الصعيد المهني تعلمتُ المعني الحقيقي لعبارة الموت على بعد خطوة، فبعد أيام قليلة من وصولي، رأيت الموت بأم عيني عندما حوصرت داخل مبنى أثناء تغطية لحظة صد قوات المعارضة لعملية تقدم لجنود من جيش النظام داخل مدينة حلب القديمة، وكذلك علمت أن مهنة التصوير قد تكون أحيانا أصعب من مهمة المقاتل".

"وماذا تعني بالعبارة الأخيرة" لم يكن من داعٍ لتساؤل كهذا، لأنه أضاف وحده قائلًا: "الجندي قد يقاتل من خلف سواتر أما المصور فقد تجبره متطلبات الميدان على الوجود في وسط نقطة اشتباك كي يلتقط صورة واحدة تختزل المشهد، وكذلك هو مطالب باقتناص صورة واضحة لا اهتزاز فيها مهما كانت الظروف".

أنسنة الصورة

أمضى أحمد ثلاثة أشهر في تغطية مجريات الثورة في حلب وريف إدلب وتوثيق ظروف الحياة المأساوية في مخيمات اللجوء "طمة وباب السلامة وسروج"، قبل أن يعود أدراجه إلى غزة كـ"استراحة محارب"، ولكنه ما كاد يصل بيته حتى بدأت "إسرائيل" عدوانها الثاني على القطاع منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2012.

بسرعة استهل كاميرته عائدًا إلى ميدان الحرب مع زملائه الغزيين هذه المرة، ساعيًا وراء الخروج بقصص مصورة لا تختلف أبعادها الحقيقية وتفاصيلها الإنسانية عما يكتبه الصحفي بقلمه، مع المشاركة في تصوير أفلام قصيرة تكشف عن جرائم الاحتلال بحق المدنيين العزل.

"لا بد وأن التجربة السورية وإن كانت قصيرة انعكست على تغطيتك لأحداث الحرب الثانية" على تعقيبي هذا يُعلق: "آمنتُ أكثر بلغة الإنسان كوسيلةٍ أساسية في إيصال تفاصيل المشهد إلى كل البشر، أي أنسنة القضية وتسليط الضوء عليها بصورة أكثر عمقًا وتخصصًا، وهذا الذي كثفت من العمل عليه عندما عدت إلى سوريا مرة ثانية مطلع عام 2014".

يتابع أحمد: "انتقلت للعيش في تركيا وهناك بدأت العمل مع وكالة الأنباء الفرنسية "أ.ف.ب" كمصور مستقل لتغطية أحداث القتال والاشتباكات الطاحنة في مدن سورية عدة ثم تابعت موجات الهجرة الجماعية إلى أوروبا داخل مخيم إيدوميني على الحدود اليونانية المقدونية، وبعدها انتقلت للعمل في فرنسا لمتابعة المهاجرين الذين وصلوا من عدة بلدان عربية".

وعن أبرز الصعوبات التي واجهها خلال تجربته الثانية داخل سوريا يقول: "بداية النظام السوري بجنوده وقناصته وطائراته لا يفرق إطلاقًا بين المدنيين والمسلحين, فالطفل والشيخ والصحفي والمسعف مستهدفون، فقبل أشهر نجونا من الموت بعدما استهدفت السيارة التي كنت أستقلها بقذيفة دبابة أصابت الجزء الخلفي لكنها تسببت باستشهاد اثنين من المدنيين الذين كانوا بالقرب".

وأردف: "في عام 2015 فقدت الصديق والمصور في وكالة الأناضول صالح ليلى الذي استشهد بتفجير سيارة مفخخة في مدينة حريتان شمال حلب، ومن الصعوبات أيضًا عدم معرفتك بالتضاريس الجغرافية وربما أحيانا قد تحتمي من الرصاص المتفجر خلف جدار ولكنك تكتشف أن سمكه لا يزيد على 3 سم، خلافًا لما هو قائم في غزة".

وتجدر الإشارة إلى أن "ضيفنا" كان يتخذ من هويته "الفلسطينية" مفتاح عبور للدخول إلى أي منطقة لا تسمح الظروف الميدانية في العبور إليها، أما إن أراد الوصول لنقاط أكثر عمقًا فيقول لمن هو على الحاجز أنا من "قطاع غزة", لتزال من أمامه كل العقبات ويحظى بمكانة مميزة عن غيره من النشطاء والصحفيين.

لغة المشاعر

لما سألته عن مساهمته في نقل معاناة غزة أثناء جولاته، أجاب: "العالم يعرف ماذا يحدث في فلسطين وخصوصا داخل غزة، ولكن هناك قصور محلي في آليات نقل الصورة إلى الغرب، فترى عدسات وسائل الإعلام تركز على زوايا جانبية وتهمش صلب الموضوع، أو أنها تقدم صور الضحايا والمجازر دون الانتباه إلى لغة المشاعر، التي تؤثر في المشاهد الغربي".

ويدلل على رؤيته السابقة بالقول: "يوجد في غزة أزمة كهرباء متفاقمة منذ سنوات قد تسببت في حوادث حرق لشقق سكنية وموت لأطفال، وهنا قد تخرج صور قد تظهر جثثًا متفحمة لاعتقاد مصورها أنها ستكون ذات تأثير كبير وعنصر جذب للمشاهد الخارجي، ولكن هذا اعتقاد غير صحيح، فصورة لدمية أطفال نجت من الحرق قد تؤثر إيجابيًا أضعاف الصورة الأولى".

ويؤمن ديب بأن "الصورة خير من ألف كلمة" ولكن كي يكتمل المعنى يجب أن تتضمن الصورة عدة عناصر، وعن ذلك يقول: "يتطلب عمل قصة ما اختيار الجانب الإنساني منها أولًا، وإجادة كتابة النص المختصر المرافق للصورة، مع ضرورة الوقوف على شهادات حية لأناس عايشوا الحادث، إلى جانب مخاطبة المتلقي بلغته الأم وبسلاسة".

ويختم الشاب ديب حديثه الذي كان بطعمٍ فوتوغرافي مع صحيفة "فلسطين" بنصيحة قال فيها: "كن على يقين تام أن صورة واحدة قد تخلد اسمك على مر التاريخ، وصورة واحدة أيضًا قد توثق تاريخًا يصعب تزييفه، لذا افعل كل شيء مستطاع لتخرج بصورة تحكي الحكاية من الألف إلى الياء".