يتوقف الكثير منا بعد أن يمر به العمر مسرعا ويتساءل بدهشة ما الذي أفضى بي في دار رعاية المسنين بدلا من أن أكون وسط أبنائي أستظل باهتمامهم ورعايتهم في خريف أيامي؟
أو قد يسأل أحدنا لم لا يبادلني أحبتي الاهتمام الذي أقدمه لهم؟ والإجابة هي أننا لم نتعلم الاهتمام بشكل سليم ولم نعلمه لمن حولنا.
الإنسان بطبيعته كائن لديه استعدادات عصبية فطرية جهز بها لتساعده على التكيف في البيئة التي يعيش فيها، ومن سمات هذا التكيف هو توافق الإنسان مع محيطه بما فيه من كائنات حيوان ونبات وإنسان، ومن ضمن ما يتوافق معه الإنسان هو أخيه الإنسان، مدفوعا من حاجاته النفس- اجتماعية , وهي الحاجة إلى الآخر، إلى الطمأنينة والاستقرار والاحترام والتقدير، إلى توكيد الذات حيث إن الذات فاعلة متفاعلة مع الآخرين.
والاهتمام الاجتماعي هو الرغبة في الاحتفاظ بعلاقة قائمة على الحب والاهتمام وبدون هذا الاهتمام ستعاني الذات الاضطراب والانعزال.
لا يستطيع أي شخص أن ينفصل كليا عن الناس وعن الالتزامات نحوهم، فمنذ بدء الخلق تجمع الناس مع بعضهم البعض على شكل عائلات وقبائل وشعوب، وهي تجمعات أساسية لا غنى للإنسان عنها إذ يجب على الفرد أن يتعاون وأن يكون معطاء للمجتمع من أجل أن يحقق كلا من أهدافه وأهداف المجتمع.
يُخلق الإنسان اجتماعيا ساعيا لتحقيق ما فطر عليه من اندماج في المجتمع والتعارف مع أفراده لكن هذا الاستعداد الفطري شأنه شأن أي قدرة طبيعية، لا يظهر تلقائيا وإنما يثمر بالتوجيه والتدريب.
يبدأ اكتساب طرق الاهتمام السليمة من الأسرة فهي التي تغرس في الفرد الاهتمام بعلاقاته فيمن حوله، وتختلف نسبة الالتزام الاجتماعي من فرد لآخر حسب التزام أسرته التي يحاكي تصرفاتها تلقائيا دون وعي. وقد يختفي الاهتمام بمن حولنا بفعل عوامل التنشئة والتربية والبيئة المحيطة حتى يصبح الشخص لا مبال إن نشأ في أسرة كثيرة الاهتمام أو عديمة الاهتمام.
وبسبب اختلاف البشر وعظم قيمة الاهتمام بالعلاقات الإنسانية جاءت الشرائع لتعين الأسرة على غرس الاهتمام في الفرد، فبالنسبة لنا كمسلمين لم يترك الشرع صغيرة ولا كبيرة حول الاهتمام إلا وأوصى بها أو جعلها أمرا، فالاهتمام بالوالدين أمر يحاسب مهمله وينال الدرجات العليا من يحسن الاهتمام بوالديه، والاهتمام بالزوجة ورعايتها والرفق بها والإنفاق عليها والإحسان لها يرفع قيمة الرجل إلى أخيار الناس .
والاهتمام بالأبناء وتربيتهم وتعليمهم والإحسان لهم كذلك فرض، والاهتمام بصلة الأرحام باعتباره اهتماما بالأقارب من أكثر الأمور التي يجازى عليها الإنسان فمن أهميتها كانت شرطا لدخول الجنة وبسعة الرزق في الدنيا، والاهتمام بالجار والاهتمام بالغرباء بالتبسم في وجوههم وإلقاء التحية عليهم جميعها صور للاهتمام بالعلاقات الاجتماعية التي تمنح الفرد الاستقرار والسلام والحياة السوية تبعا لتركيبته وفطرته.
من أبرز المشكلات التي يثيرها الاهتمام تلك التي تواجه الزوجين عند عدم التكافؤ في الاهتمام بينهما، حيث يقدم الإنسان بطبعه الاهتمام على طبق من فضة لمن يحب، والبعض يبالغ في تقديم الاهتمام فيختل التوازن القاضي بتبادل الاهتمام، ويتقهقر اهتمام الشخص الذي اعتاد على تلقي اهتماما زائدا ويصل الأمر إلى اهتمام من طرف واحد ورصيد كبير من خيبة الأمل لدى الطرف الآخر، وحياة بائسة لكليهما عندما يدرك المهتم أن الاهتمام إن لم يكن متبادلا فيكون مبتذلا.
كلما افتقرت الأسرة لوسائل الإشباع النفس-اجتماعي الكافية وكانت تجهل أساليب غرس الاهتمام لدى الفرد بعلاقاته بمن حوله، كلما نشأ الفرد أنانيا لا يهتم سوى بإشباع احتياجاته ورغباته، غير مكترث بالاهتمام بمن حوله فيكون الفشل حليفا لجميع علاقاته وتكون الأسرة هي المتهم الأول لذلك الفشل.