لعلّه ما من أمْرٍ أثقل على نفس الكاتب الحرّ من أن يمرّ بمرحلة الزهد بجدوى الكلام، والشعور بعبثية الاكتفاء بتحليل مشهد فاعل أو نقده، وبمطالعة تفاصيله ورصدها، ولعلّ الشعور بتلك العبثية يصبح طاغيًا مع كثافة النيران المشتعلة من حولنا، وفجائع القتل المتتالية وما يلحق بها من جرائم وانتهاكات ومظالم في مجالنا العربي والإسلامي.
وإفرازًا لهذه الحالة يحدث أن تمرّ على عشرات النصوص يوميًّا دون أن تجد فيها معنى أو لإنشائها فائدة، ودون أن تحرّك فيك انبهارًا أو شغفًا أو تصنع تأثيرًا ينحفر في القلب أو يتّحد مع نبضه، بل إنك قد تستغرب أحيانًا كثافة الإطراء على نصوص قوامها فقط كلمات منمّقة وعبارات جذابة، لكنها تعالج فكرة باهتة أو قضية سطحية.
ويبدو أن الزمن الذي كان فيه للكتابة قيمة جليلة هو أخف وطأة من هذا الحالي، ويبدو أن سرور المرء وهو يوقد جذوة في فضاء الوعي أو يساهم في تعزيز فكرة نبيلة وتهميش أخرى وضيعة كان له فسحة معتبرة في وقت غابر، أما اليوم حيث احتشاد المآسي والتراكم السريع للفعل وأثره وامتداداته الدامية فإن جدوى الأفكار الصامتة يتراجع ويضمر حتى تقترن بالعجز حينًا، وتصبح مؤشرًا عليه حينًا آخر، وخاصة حول دائرة الحقوق المسلوبة والدماء المستباحة، ذلك أن الفاعلين في مجالها وذودًا عنها باتوا أقلية مع سطوع عدالتها وجدارتها باستقطاب الفاعلين أو المضحين في سبيلها، بدليل وفرة المنافحين عنها بالكلام والتنظير والتحليل.
بات المرء يتساءل اليوم هل انحيازه إلى قضية عادلة وبذل كلماته لأجلها كافيان لكي يكون في عداد المساهمين في نصرتها، أو المحسوبين على جنودها الحقيقيين؟، وليس هذا لأن الكلمات والأفكار بلا قيمة، إنما لأنها وحدها لا تصنع شيئًا، مثلما أن الفعل على غير هدى ودون توجيه أو استناد إلى فكرة سامية سيذهب سدى، وتتبدد معه التضحيات قبل بلوغ الغاية.
ولكن يبدو أن التوازن بات عملة هذا العصر النادرة، وهو مفقود في كل مجال، في حين تبدو المجالات التي تحتاج فعلًا إلى ميل نحو الفعل على حساب القول فقيرة إلى محدثي الأثر وصانعي التغيير.
وفي المقابل تظل هناك كلمات تحضّ على ثورة، أو تقلق راحة ظالم أو مستبد أو محتل، وهي التي لم تزل تحمل رحيق الحرف وبهاءه وبراعته في صنع الأثر، وهي التي يُكتب لها الخلود وتظل تتردد على لسان الأجيال، وقد يغدو بعضها راية يستظلّ بها الناهضون والعاملون في غير زمان ومكان، وحدها هذه الكلمات تستحق أن تظلّ في مجال الرؤية والتدبّر، ووحدها تمتلك تلك القدرة العجيبة على صهر الآلام وتحويلها إلى دروع تجابه العواصف، وخاصة إذا خطّها القلم منبعثًا من مساحة يترتب على الحديث فيها أذى معنوي أو مادي، أما ما دون ذلك فلعله إلى الثرثرة أو التنفيس أقرب، وإن كان قيّمًا في محتواه، فهذه المرحلة القاحلة لن ينقذها الكلام، ولن تصنع خلاصها الأفكار الساكنة، وإن كانت عميقة ورصينة.