فلسطين أون لاين

​طبيب الفقراء.. احتضنته القنابل في "الكوفليّة" رضيعًا

في حيّ "الزَّرقا".. رشفة قهوة وحكاية

...
الدكتور أحمد الجدبة وابنه زين
غزة - حنان مطير

باتجاه الشرق من حيّ التّفاح في منطقة "الزرقا" سرتُ شارعًا طويلًا تحت شمس العاشرة تضرب بعينيّ، ألتفتُ يمينًا ويسارًا لألتقي بطبيب الأنف والأذن والحَنجرة د. أحمد الجدبة ينتظرني في موعدٍ سابق التنسيق.

سرتُ برفقتِه بضع دقائق يظلّلني دفتر مقابلاتي التي دُوّنت عليه كلمة "فلسطين" بالخطّ الأزرق العريض قبل أن نصل بوابة بيتِه الكبيرة، كانت مفتوحةً عن آخِرها، فتكشفُ عن حديقةٍ تملؤها الزهور الرّبيعيّة، حمراء وبيضاء وصفراء وبنفسجيّة.

صوت شقشقةٍ يصدر من المكان، حيث تتأرجح في سقف الواجهةِ أقفاص طيور الزينة كلّما تحرّك الطائر بداخلِها، كلٌّ في مكانها الخاص، وعلى الجدار الأيسر تصطفّ أصص الورد المدهونة باللون البنفسجي الفاتح فوق بعضها البعض، وترتكز على ألواحٍ خشبيةٍ مثبتةٍ بإحكام.

أخبرني د. أحمد أن تلك الحديقة صنعها بيديه: "إنها جنّتي التي أستمتع في غرس كلّ نبتةٍ فيها، وفي كل قطرةٍ أرشّها عليها، ولو أنني تركتُها على حالِها لباتت مخزنًا (للكراكيع) كما هو حال الكثير من البيوت".

ويقول: "في كل زهرة وشتلةٍ خضراء أشعر أنني أصنع حياةً وأنعش روحًا جديدة، فأستيقظ باكرًا للعناية بها، وتلك الثقافة أحاول غرسها في أولادي وكل من حولي".

ويضيف: "نحن من نلوّن حياتَنا بأيدينا، فإما أن نلوّنها بألوان قوس قزح الجميلة أو بألوان كئيبة تنعكس على كل تفاصيل حياتِنا"، يبتسم ثم يشير إلى زاويةٍ مفروشةٍ بحصًى ملوّنة بكل الألوان الزّاهية، ويقول: "كهذه الحصَى مثلًا، جلبتها من الشارع ولوّنتها لتعطي منظرًا ساحرًا ومريحًا".

حكايات الصباح

في طَرف الساحة الواسعة نسبيًا والمفروشة بعشب الإنجيل الأخضر الرّطِب، وُضِعت طاولةٌ ومن فوقِها زهريةٌ تملؤها الزهور، وحولها التفّ عدد من الكراسي، جلسنا عليها واستمعتُ إلى الحكايات الكثيرة، مع رشفاتٍ من فنجان قهوةٍ مُرّة وقطعةً من البسكويت قدّمتها إلينا زوجتُه بودّ ورحابة.

ومن تلك الحكايات، حين كان الطبيب أحمد رضيعًا تحمله أختُه نبيلة البالغة 13 عامًا، وقد لفّته القنابل في الكوفليّة البيضاء لتهريبها بعيدًا عن جيش الاحتلال، ثم صبيًا فلاحًا تارةً يعشب الأرض وأخرى يرعى الغنم أو يقطف الثمر، فراجم للحجارة وموزع للمناشير في الانتفاضة الأولى، وحتى صار شابًا فانتقل لأوكرانيا لدراسة الطّب ثم العودة لغزّة واحتضان الأطفال الفقراء وعلاجهم بالمجّان في مبادرة بعنوان "صحة طفلك بتهمنا".

وبالعودة لأختِه نبيلة -60 عامًا- التي شاركتنا وزوجتُه وأخريات الجِلسة فتخبرنا كم أنها كانت تُحبّ أخاها وأنها تُعدّ نفسها أمّه لكثرة ما تنّقلت به بين ذراعيها، تحكي لـ"فلسطين": "في عام 1970 كنا نخبّئ عن أعين الجيش الإسرائيليّ الفدائيَ زياد الحُسيني، وأصحابه وأسلحتهم، في وكرٍ أسفل بيتِنا، جدارُه خشبيّ، ينزلون إليه عبر ثلاث درجاتٍ، من مدخلٍ صغير مساحته تتسع لشخصٍ واحدٍ فقط، وكنا نلقي لوحًا من الزينكو الصّدئ على بابه لإخفاء الأمر".

وتقول: "كانت مهمتي آنذاك توصيل القنابل إلى والدة الحُسيني التي تنتظرني داخل المقبرة القريبة من ساحة الشوّا، أسلّم أحمد لزياد، فيصفّ القنابل الثقيلة داخل ملابسه التي نختارها واسعة ثم يلفّه بالكوفليّة البيضاء ويعيده إليّ فأنطلق".

أما دور والدتِها فكانت كالأم في قصة ليلى والذئب توصي ابنتَها ألا تكلّم أحدًا في الطريق، ثم تدعو لها برضى الله تعالى –تعبر الحاجة نبيلة-.

وتضيف: "كنت أمضي ما يقارب 45 دقيقة سيرًا على الأقدام وهو بين ذراعيّ صامتًا، وأجتاز مدرسة (يافا) حيث يتجمع جيش الاحتلال، وعند تلك النقطة تحديدًا أقرأ آية الكرسي وأقول الآية الكريمة: (وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يبصرون)".. ويتكرر المشهد ما يقارب 15 مرّة، فيما تستقبلهما والدة الحسيني بحُبّ، فتأخذ القنابل وتُقبل الصغير وتعيده لذراعيّ نبيلة التي تعود بحملٍ خفيف، وفق قولِها.

حياة الفلاحة

الرضيع لم يعد في كوفليّتِه، بل كبُر وصار شبلًا يُعتَمدُ عليه في الزراعة مع والدِه الفلَّاح وأعمامه وإخوته، يروي د. أحمد لـ"فلسطين": "في "الزّرقا" عشنا حياةً البساطة، لا نعرف غير الزراعة والرعي والقطف، نذهب لمدرستنا ونعود للعمل، كانت سعادتي كبيرة أمام رغيف الخبز المخبوز عبر فرن الطين، وكم يطيب حين تُكسَر عليه بيضة وتنضج مع حرارة الفرن أو يُرشّ الرغيف بالزعتر".

ويستدرك: "لكن الظروف كادت ذات يومٍ أن تدفعني وإخوتي لترك المدرسة للأبد، بل وتركناها فعلًا مدة يومين، لعدم توافر المال الكافي لدفع رسوم المدرسة، وكنا آنذاك نطحن القمح الذي تنتجه الأرض ونصنع منه الطحين ونعيش عليه كعائلةٍ ممتدة وعددها 49 نفرًا.

يعود بذاكرتِه أكثر ويبتسم: "لم يحتمل والدي ذلك القرار وباعَ القمح، ومن مردوده دفع رسومنا، فنحشو الفلفل الأحمر أو الدّقّة في رغيف خبز الطين وننطلق للمدرسة".

ويقول: "لم أكن على اطّلاع على منطقةٍ غير (الزرقا)، تلك القرية البسيطة البدائية التي كبرت وترعرعت فيها، لكنني حين كبرت شيئًا تمنّيتُ لو أنّ أحدًا يعزمني على (ساندويش) من الفلافل في أحد الأماكن المتقدمة".

يبتسم ويضيف: "حلمٌ بسيط للغاية، يحمل كل البراءة والعفوية، كأي طفلٍ من تلك المنطقة، واليوم هناك الكثير من الأطفال في قطاع غزّة يتمنّون تلك الأمنية على بساطتِها". ويتساءل: "فما البال إن حُرِموا من العلاج لعدم قدرتهم على توفّر المال؟!".

مولِد المبادرة

ذات يومٍ ليس ببعيدٍ، عادت صغيرتُه لارا البالغة تسعة أعوام من مدرستها الابتدائية، وألقت حقيبة كتِفها جنبًا على عجل، ثم انطلقت لوالدِها لتسأله سؤالًا، كان فيما بعد مولِدًا لمبادرةٍ تضمن للأطفال الفقراء الحصول بكرامةٍ على جزءٍ من حقّهم، وهذه التفاصيل أكثر.

يروي د. أحمد: "سألتني صغيرتي إنْ كان الأطفال في قطاع غزّة يتلقون علاجهم مجانًا أم لا، وكانت يومها تلقّت درسًا في مدرستها حول حقوق الطفل ومنها الحق في التعلم والعلاج".

"شعرتُ بالمسؤولية تجاه الأطفال، ودارت في خلدي حكايات طفولتي القروية البسيطة في حيّ (الزّرقا) وأحلامي الكثيرة التي كنت أراها بعيدة المال مستحيلة التحقيق"، يقول لـ"فلسطين".

ويضيف: "نمت ليلتي أفكّر في إجابةٍ عن سؤالها حتى انتهى تفكيري باتّخاذ القرار وإطلاق مبادرة (صحة طفلك بتهمنا)".

وفي تلك المبادرة يعالج د. الجدبة الأطفال مجانًا، ولفترةٍ مفتوحةٍ، يعلق متسائلًا: "لماذا لا يتم معالجة الفقراء مثل باقي العائلات التي تملك مالًا؟ إنه حقّ لهم وواجب علينا ما دمنا نملك العلم وهم لا يملكون المال".

ولاقت "صحة طفلك بتهمنا" رواجًا كبيرًا وشعورًا بالامتنان بين أهالي الأطفال، ففي ظل حديثي إليه يتصل طفل من إحدى مدارس غزّة، ويخبره أن مدير المدرسة دعاه وغيره من الطلاب للتواصل معه من أجل العلاج في عيادته المجانية، فكان ردّه فوريًا، وحجز موعدًا له عبر السكرتيرة.

مواقف كثيرة مشرفة وأخرى مزعجة يمر فيها د. أحمد ويعدّها طبيعية طالما هو من قرّر فتح باب العمل مجانًا ويضطر لقبولِها، يوضح: "كالاتصالات الكثيرة المُرهقة، أو أن يأتي والد طفلٍ مريض من منطقة بعيدة دون تنسيق مسبقٍ فتضطر للتماشي مع الأمر فلا تعيده مخذولًا، أو أن يأتيك مقتدرٌ للعلاج مجانًا، فتدّعي أنك تجهل الأمر كي لا تضعه بموقف محرج وما إلى ذلك".

راحة نفسية

وبالرغم من الجهد البدنيّ المضاعف والعقلي الذي يبذله د. أحمد في الكشف وعلاج الأطفال إلا أنه يشعر بالراحة النفسية والسعادة لاتخاذ هذا القرار، وحول هذا يحكي: "وضعتُ نفسي في تلك الخانة من المسؤولية التي سيقدّرني الله على المضي قدمًا فيها، ويكفيني أن تخرج امرأة عجوز من عيادتي برفقة حفيدها بعد العلاج وتدعو لي بأن يحفظ الله أولادي".

ويعبر: "إنه مكسبٌ للآخرة والدّنيا أيضًا"، فيما يحرص الطبيب على إعطاء لعبةٍ بسيطةٍ لكل طفل يخرج من عيادتِه، يعلق: "تلك الهدية البسيطة تشعره بالسعادة وتخفف عنه الكثير من الألم، بل وتجعله لا يشعر أنه قادم لطبيب بأدواتِه المخيفة".

الطبيب أحمد الذي درس الطب في أوكرانيا، والماجستير "أنف وأذن وحنجرة" بتخصص مناظير الحنجرة والقصبة الهوائية، ويعمل في مستشفى الشفاء بغزّة، زيّن عيادتَه الخاصّة أيضًا بأُصصِ الورود في كل زواياها، فتنعكس عليها أشعة الشمس المنبعثة من النوافذ الزجاجية الكبيرة المحيطة بالغرفة من أقصى يمينها لأقصى يسارِها، وتعطِي منظرًا كما الحديقة.

كلّ الورود كانت طبيعيةً وليست "بلاستيكية" فالحياة كما يقول في الطبيعة وليست في الجماد، أما في أوكرانيا فالبلاستيكية توضع على قبور الموتَى.

انتهى حديثي مع الدكتور، فيما كان ابنُه "زين" يرش بعض الشتلات بالماء من الإبريق الخاص بسقايتِها، ويستمع إلينا مبتسمًا.

ودّعتُه وكلّ من حوله وتركت لصغيرتِه "لارا" سلامًا حارًّا حال عودتِها من مدرستِها، حيث كانت سببًا ومولدًا لتلك المبادرة، وخرجتُ بيديّ دفتري وقلمي وضمّة وردٍ ذات رائحةٍ زكيّة.