لم تكد ردود الفعل العربية التي انطلقت في أعقاب قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إعلان انحيازه المطلق لـ(إسرائيل)، بدوافع مسيحانية صهيونية، اعتبار العاصمة الأبدية لفلسطين (القدس) "عاصمة أبدية" لكيان الاحتلال الصهيوني، وإعلان نيته نقل السفارة الأميركية إلى أحد أحيائها هذا العام أو العام المقبل، على أبعد تقدير، لم تكد هذه الردود تلتمع، حتى جرى إخمادها، بدوافع ذاتية وموضوعية، على حد سواء، فيما خلا ما جرى ويجري داخل الأراضي الفلسطينية، فهي لم تهمد شعبيا، وإن همدت سلطويا، بل هي تستمر وتتواصل جماهيريا؛ على شكل انتفاض شعبيٍّ وهبّاتٍ شبابيةٍ وكفاحاتٍ جماهيريةٍ متنقلةٍ في طول الوطن الفلسطيني وعرضه، من دون إسناد ودعم حقيقيين من جانب ما يفترض أنها المؤسسات الممثلة للحركة الشعبية الكفاحية الفلسطينية، من بقايا قيادة حركة التحرر الوطني الفلسطينية وقواها، وقد أشغلتها السلطة بمهماتها الوظيفية عن مهماتها القديمة واجبة الوجود والحضور؛ طالما لم يتحقق للشعب الفلسطيني أي هدف نضالي، سعت إلى تحقيقه الحركة الوطنية الفلسطينية، من خلال انطلاق الثورة المعاصرة في منتصف ستينيات القرن المنصرم.
لا يعكس مثل هذا الهمود الرسمي والسلطوي الفلسطيني موقفا نضاليا أصيلا، لا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي المباشر، ولا في مواجهة الدعم الإمبريالي الأميركي، ومخططات "صفقة القرن" ومشاريع التصفية التفاوضية، بل إن ما يجري تحت الطاولة لا فوقها فحسب، من تعاون وتنسيق أمني وسياسي وإداري واقتصادي، ليس ولم يكن ولن يكون معنيا بفك الارتباط مع العدو، على ما نصّت عليه قرارات المؤسسات الوطنية، كالمجلس المركزي واللجنة التنفيذية، وما برحت تنص عليه قرارات قوى فصائلية؛ وهي كلها قرارات أفرغت من مضامينها بعد وقت قصير من صدورها، فلم يجر العمل بها، بقدر ما استمر تدهور الحال القيادي الرسمي والسلطوي والفصائلي، في تركه الحالة الشعبية والجماهيرية تقود ذاتها بذاتها، لتدافع عن كامل التطلعات والمصالح الوطنية وأحلام الحركة الشعبية في صيانة الحلم الوطني الفلسطيني في التحرير والاستقلال والعودة.
بات واضحا، وأكثر من أي وقت سبق، خصوصا بعد "قرار القدس الترامبي"، وما بدأ يتكشف من شظايا "صفقة القرن" وبعض الاصطفافات الإقليمية إلى جانبها، والانحياز إلى جانب توجهاتها وأهدافها التصفوية، أن الشعب الفلسطيني بات وحيدا في عراء المواجهة، مكشوفا بلا أي غطاءٍ قياديٍّ فلسطيني، فيما لم يبق هناك أي دعم إقليمي، بينما يؤكد "الخيار القيادي" أنه ليس معنيا بمخالفة واقع التنسيق الأمني والاقتصادي والإداري مع الاحتلال، أو معاندة هذا الواقع، بالنظر إلى المصالح الزبائنية التي باتت تتحكم في مسار تلك العلاقات "الثابتة"، كما أنه ليس معنيا بإعلان القطيعة مع الإدارة الترامبية، على الرغم من مواقفها الواضحة والصريحة في عدائيتها، وبغضها قضية الفلسطيني وتطلعاته وأحلامه بالحرية، طالما بقيت وتبقى تشكل النفي المطلق لسرديات الزيف التوراتية، ولمثيلاتها من مزايدات سرديات المسيحية الصهيونية الأكثر عدائية.
في المقابل، وإذ يترك الخيار الشعبي الفلسطيني وحيدا في مواجهة مهام اللحظة "المقدسية"، كما المهام الكفاحية في أبرز تجليات الانتفاض والهبات الشعبية، فقد بات هو الخيار الأفضل والأقدس من كل خيارات المهزومين والمطبعين مع العدو، وهو الخيار الأعلى من كل خيارات أصحاب المصالح، المهيمنين على واقع الحركة السياسية والنظام السياسي، والمتنفذين ماليا وسلطويا، فيما أضحى يتعاكس مع أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية بآفاقها التاريخية، ويتناقض معها.
على أن مواجهة صفعات "صفقة القرن" بأطرافها الإقليمية والدولية تستوجب الخروج من حال المراوحة والتفكك، والعمل على تأبيد الانقسام وتقديس السلطة، وجعل ذلك كله هاجسا رئيسا وهمّا أول، في حين أن المواجهة الناجعة، وحماية المشروع الوطني، تتطلبان انحيازا أعلى للمهام الكفاحية الوطنية، وللشعب الفلسطيني بكل فئاته وشرائحه واتجاهاته وتوجهاته، لا لمهام وظيفية ووظائفية لفئاتٍ تستفيد من السلطة، وتفيدها في تكوين غشاء "سلطة عميقة" لها تدافع عن مصالحها، لا عن مصالح وتطلعات شعب وقضية، الشعب الأكبر قدرا والأكثر عددا من "البقايا" التي يراد حكمها بأنماط الاستبداد السلطوي ومعاييره ذاتها، والقضية التي تعني المسألة الفلسطينية كلها كما نشأت يوما قبل سبعين عاما، لا كما أصبحت عليه قبل أكثر من خمسين عاما، ولا في ما أمست عليه في أعقاب اتفاق أوسلو، وما جرّه من تداعيات التخلي عن بعض مدن الضفة الغربية وقراها، سرقة واستيلاءً واستيطانا، وما يُراد لنا اليوم من متابعة تداعيات الخروج عن النص الوطني بالتخلّي عن القدس، ومحاولة تبليعنا أبو ديس عاصمةً لكيان غريب، لا يحل لغز المسألة الفلسطينية، ولا ألغاز التغريبة الفلسطينية التي يُراد لها أن تتواصل؛ ليس على أيدي الأعداء فقط، وإنما على أيدي من ينسق ويرتبط بهم، حرصا على ديمومة سلطةٍ له لا تعني الشعب وقضيته، وهي خارج سياق المسألة الفلسطينية برمتها.
تحتم معطيات واقع بكل هذه المأساوية والسوداوية حماية المشروع الوطني الفلسطيني وصيانته من سيل التراجعات، وسبل التخلي عن مبادئه الكفاحية، أو التلاعب بأولوياته، وهذا ما لا يمكن أن تحققه بتكتيكات ومسلكيات سلطة حرقت سفنها، ولم تبق لذاتها سوى ما يخدم تلك التكتيكات والمسلكيات، البعيدة كل البعد عن الخيارات الشعبية، لجهة صوابية اتجاهاتها وتوجهاتها الكفاحية التي تصبو نحو فجر الحرية وإزالة الاحتلال، لا للشراكة معه، أو لتمتين روابطنا بمؤسساته.
أما جدارها الأخير (المفاوضات) فهو ما لا قدرة للفلسطينيين وحدهم على تعديل مساراتها، في اتجاه استحداث رعايةٍ دوليةٍ، تكون الولايات المتحدة جزءا منها فقط، فهي منذ البداية لم تكن وسيطا نزيها، بقدر ما كانت وستبقى طرفا منحازا إلى الجانب الإسرائيلي، يضع ثقله كله إلى جانبه، وحتى لو نجح المجتمع الدولي في استحداث رعايةٍ دوليةٍ مستجدةٍ لعملية المفاوضات، فالأمر سيان بالنسبة للولايات المتحدة، ولدورها فيها، وربما لأدوار آخرين، لن يستطيعوا تنفيذ ما يحلم به الفلسطينيون، لتحقيق بعض آمالهم التي ستعاود (إسرائيل) بناء جدران صد للوقوف أمامها، وبدعم من الأطراف الراعية نفسها، في وقت يفتقد الطرف الفلسطيني داعمين إقليميين، دللت خبرة السنوات الماضية على أنهم "يحيّدون" أنفسهم، وقد تركوا شقيقهم الفلسطيني وحيدا يصرخ في عراء المواجهة "يا وحدنا"، وهم بالأصل ما امتلكوا ولم يمتلكوا سوى "قوة الألفاظ"، فيما تقبع القوة الكفيلة بتعديل ميزان القوة في مكان آخر، يجري تجاهله وعدم مقاربته، حتى في ظل مواقف "الحشر والانحشار"، ووصول المواقف ووضوحها حتى اصطدامها بالجدار الأخير.