اعتادت الدول العظمى وشبه العظمى، عسكريا، على استخدام تعبير «كل الخيارات مطروحة على الطاولة»، كنوع من التهديد المبطن باستخدام القوة العسكرية ضد الطرف المعني. لكن ألا يحق لشعب يمتلك حقا شرعيا عظيما، مثل الشعب الفلسطيني، يناضل لتحقيقه، ويفتقر إلى مقومات ملائمة تجعل منه قوة عسكرية جدية، أن يعلن أن «كل الخيارات» مطروحة على طاولته الصغيرة؟
جوابي على هذا التساؤل إيجابي. فعُلُو «طاولة الحق الفلسطيني المشروع» يقدم تعويضا كافيا عن صغر مساحتها. وقد حان الآن، بعد عقود من مفاوضات عقيمة مع سبع حكومات إسرائيلية متعاقبة، أكثرها تعنتا ويمينية وعنصرية هي الحكومة الحالية، أن يعلن الفلسطينيون قلب طاولة المفاوضات الحالية، ووضع «كل الخيارات» على طاولتهم الخاصة.
هذا الأمر يعني تدارس البدائل المتوفرة لاعتماد استراتيجية فلسطينية جديدة، تستفيد من تجارب الشعب الفلسطيني المتراكمة: الإيجابية منها لتعزيزها، والسلبية منها لاستبعادها. ولعل أول ما يجدر بنا اعتماده لبناء هذه الاستراتيجية الجديدة، هو اعتماد مبدأ «كل الخيارات على الطاولة»، وما يتفرع عن ذلك، وهو كثير.
أدّت صدمة النكبة سنة 1984 إلى دخول الشعب الفلسطيني في مرحلة ضياع وفقدان البوصلة التي تحدد له الطريق والاتجاه، لكن هذه المرحلة لم تعمِّر طويلا، وتخللتها تحركات فردية غير منظمة، وتململ مثمر في جميع مناطق تواجد الفلسطينيين: في مناطق الـ48 والضفة الغربية وقطاع غزة وفي جميع مخيمات اللاجئين، وخاصة في دول الطوق، في الأردن وسوريا ولبنان ومصر.
أنتج هذا التحرك والتململ تيارات فلسطينية عديدة، أهمها تياران: تبنّى التيار الأول مبدأ الاعتماد على النظام العربي بشكل عام، ورفده بتنظيم صفوف الفلسطينيين، وتشكيل مراكز وهيئات ومؤسسات فلسطينية، أهمها «جيش التحرير الفلسطيني» الملحق، بشكل أو بآخر، بالجيوش العربية في مصر والأردن وسوريا والعراق، وكل ذلك تحت إطار «منظمة التحرير الفلسطينية» التي أنشأتها جامعة الدول العربية. في حين تبنّى التيار الثاني مبدأ الاعتماد على الذات والمبادرة بتنظيم وإعداد شباب فلسطيني لبدء عمل فدائي وكفاح مسلح ضد (إسرائيل)، والسعي الجدي لتأمين دعم وحماية ومشاركة عربية ودولية أيضا، وكانت حركة فتح هي الأبرز والأهم والأكثر جدية وتنظيما بين مكونات هذا التيار.
يسجل للرئيس الأول لمنظمة التحرير، أحمد الشقيري، أنه عندما أصيب النظام العربي بالنكسة المشينة في حزيران/يونيو1967، لم يحلّ م.ت.ف.، بل اكتفى بالابتعاد وتسليم الراية ليحيى حمودة في مرحلة انتقالية قصيرة، ليسلم هو بدوره الراية إلى قائد حركة فتح، الزعيم الفلسطيني الخالد، ياسر عرفات.
أصبحت منظمة التحرير هي «الاسم الحركي» للثورة الفلسطينية، التي ارتكبت خطأ فادحا برفع وتبني شعار «الكفاح المسلح طريق وحيد لتحرير فلسطين». إذ، من قال إن اعتماد طرق وأساليب عديدة تكمل بعضها البعض، بل ومسارب ومسالك عديدة في الدرب الواحدة لا يمكن لها أن تحرر فلسطين؟ لقد قاد هذا التفكير العاجز إلى صراعات عديدة داخل الساحة الفلسطينية كان يمكن تفاديها.
ثم جاءت اتفاقيات اوسلو وما حملته من منافع وفوائد عظيمة، إلى جانب ما تخللها من نقاط ضعف، كان بالإمكان تجاوزها. لحق بتلك الاتفاقيات تطورات سياسية وميدانية مسيئة للواقع الفلسطيني، ومهددة للحلم الفلسطيني بالتحرر والانعتاق من الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي. واستغلت (إسرائيل) خطأً تكتيكياً صغيراً، لتعلن قرارا استراتيجيا مدمرا، هو قرار رئيس الحكومة الإسرائيلية اسحق رابين، من خلال تصريحه المعلن: «ليس هناك تواريخ مقدسة»، أي التنصل الإسرائيلي من الالتزام بتطبيق بنود الاتفاقية في مواعيدها. والأهم بين تلك المواعيد هو الانتهاء من المفاوضات حول القضايا الأساسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي في موعد أقصاه العام 1999.
تخلى العمل الوطني الفلسطيني رسميا في أجواء اتفاقيات اوسلو عن خطأ «الكفاح المسلح طريق وحيد»، ووقع العمل الوطني الفلسطيني ما بعد اوسلو في خطأ «المفاوضات طريق وحيد». ليس شعار «الكفاح المسلح وحيد» كفيلا بالإنجاز، وليست «المفاوضات وحيدة» كفيلة بإنجاز. عندما تنتهي المفاوضات إلى إنجاز وتحقيق المطلوب منها وطنيا، تلغى الضرورة للكفاح المسلح.
من هنا نصل إلى قناعة أن التنسيق والتكامل بين كل أشكال وأساليب النضال المشروعة دوليا، في مثل حالة تحرك الشعوب لدحر الاحتلال والاستعمار ونيل الحرية والاستقلال، هي الطريق لإنجاز المطالب الوطنية المشروعة.
سلّم الشقيري منظمة التحرير الفلسطينية لـ"الثورة الفلسطينية" الحقيقية. لكن منظمة التحرير، بقيادتها الثورية، قيادة حركة فتح، بدأت بتسليم أجزاء من جسمها الحي،(هم عشرات الألوف من المناضلين) وتسليم أجزاء من مهماتها الأساسية إلى «السلطة الوطنية الفلسطينية» التي لا تملك القدرة على السيطرة في ظل القوة العسكرية للاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، المهيمنة والحامية أيضا للمستوطنين/المستعمرين لمساحات من أراضي الدولة الفلسطينية، ولمحاصرة ملايين الفلسطينيين في غزة والضفة (والقدس العربية منها).
هذا وضع لا يجدر بالفلسطينيين أن يسمحوا له بالاستمرار. ومع انعدام توفر روافع عربية فاعلة، في هذه المرحلة من التشتت والانقسام والاحتراب العربي – العربي، تدعم العمل الفلسطيني بشكل حقيقي مؤثر وفعّال، يجيء دور الاعتماد على الذات، ليكون الفلسطينيون رأس الحربة في التحرك لإنجاز المطالب الوطنية المشروعة والمقرة دوليا، دون إهمال الدور البالغ الأهمية للتحرك على الصعيد الدولي الرسمي والجماهيري.
لا أبالغ إذا قلت إن البند الأول في الاستراتيجية الفلسطينية الجديدة التي أرى فائدة وضرورة اعتمادها، هي إعادة الاعتبار والاحترام لتعبير «الثورة الفلسطينية»، بكل ما يحمله هذا التعبير من معانٍ.
وإذا كانت منظمة التحرير الفلسطينية، بقيادتها الحالية، في هذه المرحلة، عاجزة عن التقدم على طريق إنجاز أهدافها، فإنه ليس من الوطنية في شيء، لا إلغاء وجودها، ولا تسليم كل ما لها من صلاحيات لسلطة فلسطينية لا تملك القدرة على السيطرة. وآن للجميع أن يستوعبوا درس الرئيس الأول لمنظمة التحرير الراحل أحمد الشقيري.
لا يضير الفلسطينيين، وهم يناضلون لنيل حقوقهم الطبيعية والسياسية المشروعة، لدحر الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي أن يصرحوا بأن «كل الخيارات مطروحة على الطاولة» وأن يكون هذا التوجه المعلن جدِّياً.
يستدعي الوضع الفلسطيني، بما آل إليه، عصفا فكريا جديا وعميقا لبلورة استراتيجية فلسطينية جديدة.