تزدحم الساحة السياسية الفلسطينية كما الدولية بالكثير من المصطلحات التي ترقص على خمسين حبلًا، وتشدو على ألف مقام، وليس لها تعريف جامع مانع يتفق عليه الجميع، ومن تلك المصطلحات (المشروع الوطني الفلسطيني) المصطلح الذي يدعى الجميع أنه الأب الشرعي له، وأنه حامي حماه، ويحاول التمسك، ويروجه بالطريقة التي تخدمه وفق رؤيته، ليدغدغ الجماهير ويضفي الشرعية على نفسه.
نشأت فكرة المشروع الوطني الفلسطيني منذ الاحتلال الصهيوني لفلسطين انطلاقًا من الرغبة الجماعية في الحفاظ على الذات والهوية الفلسطينية من الذوبان أمام حرارة الواقع وعلى الأرض من الضياع، وحفظ إرثنا التاريخي وخصوصياتنا، وتقوية حاضرنا، والعمل من أجل مستقبل أفضل، وقد ارتكزت فكرة المشروع الوطني على وجوب رفض الكل الفلسطيني للاحتلال والتوافق على أن الكفاح المسلح هو بوابة التحرير، وإن أي خلل في هذه المنهجية يعتبر تضييعًا للهوية وللحقوق الفلسطينية، فتجمع الفلسطينيون حول الفكرة باعتبارها أيقونة جامعة ونظروا لها على أنها بارقة أمل، وأداة لاستعادة حقوقهم المسلوبة، وإعادتهم إلى أرضهم وإعادة أرضهم إليهم، لكن ومع مرور الوقت ودخول بعض الفلسطينيين على خط التسوية مع الاحتلال بدأت ملامح هذا المشروع تتشوه وتتقزم، وبدأ المصطلح ينحرف عن بوصلته الأصلية.
وشخصيًا أقرأ كثيرًا مقالات وأبحاثًا وأستمع لكثير من اللقاءات لشخصيات سياسية من شتى الاتجاهات تتحدث عن ضرورة العمل من أجل إنقاذ ثم إنفاذ المشروع الوطني الفلسطيني، أشعر بسعادة كبيرة لأن حب الوطن ما زال يسكن في قلوب أبنائه، لكن حين أقرأ ما أقرؤه، وأسمع ما أسمعه من طرفٍ حول رؤيته للمشروع الوطني ما هي أسسه ومتطلباته وفلسفته وطرق إنجازه؟ ألاحظ أن ما لدى طرف يختلف عما هو موجود عند الطرف الآخر، وكأن الطرفين ليسا أبناء أم واحدة فلسطين.
ففريق يرى أن المشروع الوطني هو تحرير فلسطين من بحرها إلى نهرها من ام الرشراش حتى رأس الناقورة، ويرى أن منطلقات تحقيق ذلك المشروع يجب أن تكون إسلامية، ترتكز على أن فلسطين أرض وقف، ولا يجوز التنازل عنها، وأن أدوات تحريرها من الاحتلال تبدأ من (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ولا تنتهي عند (قاتلوهم).
بينما فريق آخر يرى أن المشروع الوطني هو القبول بما قسمت لك الشرائع الأرضية، والاكتفاء بفلسطين في حدود1967 وكفى الله المؤمنين القتال، وأن منطلقات ذلك المشروع هي سياسية دبلوماسية (وقولوا للناس حسنا)، وأن أدوات تحريرها من الاحتلال تتم عبر اروقة المؤسسات الدولية وقراراتها ، ويفضلون جهاد الليمون و التفاح على جهاد السلاح.
ولو أردنا تقييم الرأيين سيتضح أن كليهما لم ينجح النجاح التام، لأن كل رؤية تحتاج لعوامل دفع داخلية وخارجية، لكن يبقى الفارق الأهم أن فريق التحرير يُعد كل ما يؤلم العدو ويستعد للمعركة الفاصلة، بينما الفريق الاخر قد اراح العدو واستراح.
ويبقى الألم الذي يعتصر القلب هو أنه على الرغم من امتلاك الشعب الفلسطيني اوراق قوة تؤهله لصناعة واتمام مشروعه الوطني، إلا أنه يعاني من سلطة حذفت فكرة الاستثمار الامثل لتلك الاورق بشكل متوازٍ، وفضلت النوم في حضن المفاوضات ورمي باقي الخيارات في سلة المهملات، وتقود المسيرة بروح الفرد وليس بروح الجماعة، وتسير وفق ردة الفعل.
إن قيادة السلطة تدعي ليلا نهار أن ما تفعله هو للحفاظ على المشروع الوطني، رغم أن افعالها تنافي ذلك، وهنا أسئلة لا بد منها:
هل التنسيق الأمني وحماية امن الاحتلال و المساهمة في حصار غزة، وتجريم المقاومة العسكرية ومحاربتها والصمت على جرائم المستوطنين في الضفة والقدس، والتماشي مع المخططات الدولية الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية خاصة فيما يعرف بصفقة ترامب و التنكر لحقوق اللاجئين، من أبجديات المشروع الوطني؟ إن كانت الإجابة (نعم) فليذهب المشروع الوطني ومنظروه للجحيم، لأن المشروع الوطني بصيغته الحالية هو مقطوع النسب عن المشروع الوطني الام، أما إن كان المشروع الوطني يعيد الحقوق الى اهلها بالطرق التي تؤلم الاحتلال وتقصر من عمره، فنحن مع ذلك المشروع وندعم اصحابه بكل قوة.