فلسطين أون لاين

"ليان".. عصفورةٌ كبّل "التوحّد" جناحيها

...
غزة - رنا الشرافي

كالبحر في ليلة صيفية.. تبدو هادئة النفس شفافة الروح، ترقد بسلام في تلك الزاوية من منزلها، بعيدًا عن ضوء الشمس وصخب الحياة التي خاصمتها في وقت مبكر جدًا، وما إن تشتد الخصومة بينهما يرتفع صراخها ويتواصل لساعات وساعات، قبل أن تستسلم حنجرتها للتعب، وترقد من جديد في سباتٍ تحاول "المهدئات" أن تحافظ عليه في جسد طفلة لم تتجاوز من العمر عامها السابع بعد.

قطعة من القمر

"ليان".. طفلة غزّية، تقيم مع والديها وشقيقتها الكبرى وشقيقها الصغير منذ عامين في منزل لأحد أقرباء العائلة.. منزل فارقته ألوان الحياة وبهجتها التي تحيط بالأطفال في مثل هذه السنّ.. منزل أوى الجسد ولم يأوِ السكينة ولا الطمأنينة ولا الاستقرار الذي هو قوام أي أسرة في العالم.

وُلدت "ليان" الجميلة وكأنها قطعة من القمر، وككل الأطفال كانت تبكي دلالًا وحاجة، بل وزد عليهما بكاءها ألمًا، طفولتها لم تكن طبيعية، وصراخها بدا واضحًا أنه مبالغ فيه، وفي كل يوم تكبر فيه "ليان"، يزيد جمالها وصفاؤها وكذلك ساعات صراخها، حتى بلغت من العمر عامًا واحدًا.

في تلك السنّ لم تكن بعد قد بدأت بالزحف الذي عادة ما يتعلمه الأطفال من سنّ ستة أشهر، ولم تبدِ أي رغبة في السير أو الحركة، وصراخها مستمر، وكذلك تناولها للمهدئات أيضًا رغم صغر سنها، لكن حالتها أخذت تزداد صعوبة، وحال والدها المعسر ماديًا حال دون عرضها على أهل الاختصاص، فكان يتنقل بها بين الجمعيات الصحية الخيرية وبين الأطباء "المعارف"، دون دفع كشفية، كما أخبرنا الوالد، وفي كل مرة يكون علاجها بالمهدئات.

"أخشى على الصغيرة من الإدمان، فهي تتناول المهدئات بكثرة، وجسدها لا يهدأ إلا بتناولها، وإن كانت استجابته لها أقل من السابق".. قالها والد "ليان" الذي استمر بعرضها على الأطباء الذين يقبلون معاينة الطفلة دون مقابل حتى بلغت من العمر عامين، وعندها بدأت بالزحف والحركة، وما إن بلغت سنّ الثلاث سنوات حتى أبلغه أحد الأطباء أن صغيرته تعاني من مرض يسمى "التوحد" وأن هذا المرض لا علاج له، ولكن يمكن التخفيف من آثاره عبر برامج التأهيل غير المجانية مهما بلغت درجة الحالة من صعوبة إنسانية.

ندمت!

"ندمت لأني لم أتعلم صنعة".. بهذه العبارة حاول الأب أن يؤكد لنا أنه لم يألُ جهدًا في البحث عن عمل لتوفير ثمن الدواء لطفلته، وأنه رغم حصوله على شهادة دبلوم في تخصص السكرتاريا وإدارة المكاتب إلا أنه عمل عاملًا في مصنع للبن، وأمين مخزن، وفي أعمال أخرى لم يكن يدوم بقاؤه فيها أكثر من بضعة أشهر.

وقال: "في مصنع اللبن كنت أعمل ليوم واحد في الأسبوع، ذهبت لمدير المصنع أطلب منه زيادة وأخبرته أنني والد لحالة خاصة، يوم واحد لا يكفي لإطعام العائلة طيلة أسبوع، ومعهم طفلة لها وضع خاص ومصاريف علاج، فاعتذر وقال لي أعطيناك هذا اليوم خجلًا كي لا نطردك!".

والد "ليان" لا يزال أسيرَ بحث مضنٍ عن العمل، أوضح: "لا أطمع بوظيفة، فهي بالنسبة لي كما يقول المثل (حلم إبليس في الجنة)، فقط أريد أن أحصل على فرصة عمل مؤقتة سواء في الحكومة أو في وكالة الغوث (أونروا)"، مشيرًا إلى أنه تقدم بالفعل للحصول على فرصة من هذا النوع في الحكومة ولم يحالفه الحظ حتى الآن، أما في (أونروا) فحصل على فرصة واحدة لمدة ثلاثة أشهر، لكنه لم يتمكن من الاستفادة منها بسبب حادث سير كان قد تعرّض له في تلك الفترة.

فقر والدها، ومن قبل فقر قلوب من عرفوا بحكايتها، جعل من هذه الطفلة البريئة التي لا تستطيع "التنفس" من شدة القلق إن لم يكن أحد والديها إلى جوارها، وبسبب هذا الفقر أيضا لا تزال غير قادرة على التحكم بنفسها في عملية التبول، وبسببه أيضا لا تزال أسيرة تلك الجدران الرطبة.

تكتفي بالنظر

طفلة لم تبلغ عامها السابع بعد، تجلس في المنزل مع والدتها، لا تستطيع الذهاب إلى المدرسة بسبب مرضها، هي فقط تكتفي بالنظر إلى شقيقيها يلعبان بجوارها، دون أن تتمكن من مشاركتهما، بل إنها ترعبهما بنوبات صراخها التي تجعلهما يتجنبان الاقتراب منها.

لا تزال والدتها تنتظر سماع كلمة "ماما"، ولا يزال والدها المعسر ينتظر منها أن تقول له: "بابا بدي شيكل"، حتى وإن كان طلبها سيرهقه، هو فقط يريد أن يتعرف إلى ذلك الصوت النائم في حنجرتها منذ سبع سنوات، وكأي والدين يريدان لطفلتهما أن تلعب وتركض وتطير كالفراشات بين أصدقائها، وتتوجه إلى المدرسة كأي طفل طبيعي في هذه الدنيا.

وما يزيد الشجن في حكاية "ليان"، أنها لا تزال غائبة عن أيدي الخيّرين في مجتمعنا، وهم كثر، ولا تزال غائبة عن ضمائر من لم يقبلها أو رفض علاجها بسبب عدم قدرة والدها على دفع المال، وهي ليست الحالة الوحيدة ولكنها الحالة الأكثر ألما التي صادفتها حتى الآن.

لك أن تتخيل طفلك، لا قدر الله، يعاني من اضطراب حاد في السلوك ونوبات الهلع وعدم القدرة على مواجهة ضوء الشمس الذي لطالما كان صديقًا للأطفال، طفلة خاصمتها الحياة في سن مبكرة، وتعيش في هذه الدنيا بدل أن تكون زهرة متفتحة في بستان أبيها، هي ألم ووجع ينتظر الوجع الأكبر أن يأتي في أي ميعاد لا يُعلم.

أرواح تحترق

هل يوجد في هذه الدنيا ألم أكثر من ألم الأب؟ أو ألم الأم.. تلك السيدة التي حصلت على معدل 89% في أول عامين من تعليمها الجامعي ثم تركت التعليم بسبب فقر زوجها ومرض طفلتها التي أجبرتها على البقاء في جانبها ليل نهار حتى نسيت كل ما يقع خارج جدران هذا المنزل.

هو ليس حلما لينتهي بالاستيقاظ، ولا مرض زكام ينتهى بعد أيام، ولكنها حياة مؤلمة، مستمرة، ومتواصلة، إلى أن يشاء الله بفرج قريب، ويهيئ الأسباب التي تعيد الحياة والبسمة لهذه الطفلة المقهورة، ووالديها وشقيقيها، الذين اكتووا جميعًا بنار مرضها حتى احترقت أرواحهم واختلط رمادها مع بحر غزة.. نارٌ قد يطفِئها، أو على الأقل يخفف لهيبها، حصول الطفلة على فرصة علاج مجاني، أو حصول والدها على عمل يمكنه من تحمل نفقات علاجها.