كنا دائماً نسمع "أنه من رحم المعاناة يولد الأمل" وها نحن اليوم نرى ذلك وقد ترجم على أرض الواقع، ونشاهد كيف أن شعباً حُوصِرَ ما يزيد على إحدى عشرة سنة يُبدع في سلوكه على عكس ما يريده محاصروه، وكيف أنه يواجه المحن بتحدٍ صارخ يغيظ عدوه، ويجعله يقف أمامه مبهوراًـ يتأمل هذا السلوك، وتأخذه الحيرة من أمره، وهو يرى ما لم يرد رؤيته، وما لا يتمناه لهذا الشعب المحاصر.
صحيح أن حملة صلاة الفجر جماعة كانت حملة منظمة، قامت عليها جهات رسمية دعت إليها، وحشدت كل ما تستطيع من أجل إنجاحها، ونجحت، لكن الملفت للنظر هو هذه المبادرة التي بدأت بفرد ملهم، ثم انتشرت بين كثير من الأفراد الآخرين انتشار العدوى، أتحدث عن مبادرة إسقاط الدين عن المعسرين الذي قام بها أحد الموطنين ذوي الإحساس المرهف، والعروفة بمبادرة "سامح تُؤجر"، وأود أن أتناول هذه المبادرة الكريمة من عدة وجوه:
أولاً: من حيث كونها تجسيداً لمبدأ عظيم أقره الإسلام وحضّ عليه، وهو مبدأ "التكافل الاجتماعي" وهذه المبادرة هي تجسيد حيّ لهذا المبدأ الذي ينص على أن يكون كل فرد في المجتمع مسؤول بقدر ما يستطيع عن غيره من الأفراد، وهم جميعاً مسؤولون عنه، هذا هو التكافل الذي أراده الإسلام، تكافل بشقيه المعنوي والمادي، وأرى أن هذه المبادرة "سامح تؤجر" قد استوعبت هذا المبدأ بشقيه حيث إن الشعور بعوز الآخرين، وإعسارهم، واحتياجهم، هو تكافل معنوي، ثم إسقاط الحقوق عنهم، أو تقديم المساعدة لهم هو تكافل مادي.
هذا، وقد وردت نصوص كثيرة في فضل التكافل يكفي أن أذكر منها ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فرّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كرب من كرب الدنيا والآخرة".
ثانياً: ومما أريد الحديث عنه في هذا المجال أيضاَ، أن إسقاط الحقوق عن الناس لا يكون إلا برضا صاحب الحق واختياره، ولا يجوز إجبار أحد على ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه"، ولكن يجوز لنا ترغيب الناس في إسقاط حقوقهم، وليس إجبارهم على ذلك.
ثالثاً: الحرص على تجنب النفاق والرياء في هذا الأمر، فمن أراد مسامحة الناس وإسقاط حقوقه فالأحسن له ألا يعلن عن ذلك خوفاً من الرياء والسمعة، لما جاء في فضل الصدقة بظهر الغيب في كتاب الله تعالى حيث قال: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، ولكن يحسن الإعلان عن هذا الصنيع إذا قصد المرء أن يقتدي به الآخرون فيفعلوا مثل فعله، والله تعالى أعلم بنوايا الناس.
رابعاً: إن مثل هذه التصرفات تظهر أصالة المجتمع الغزي، وهي نقاط مضيئة في تاريخ هذا المجتمع المسلطة عليه الأضواء من كل الاتجاهات، فهو مجتمع حاول أن يعيش حياته رغم أن أعداءه على اختلاف مشاربهم يريدون أن يمنعوا عنه الهواء إن استطاعوا ذلك، ولكن رحمة الله تعالى اقتضت ألا يكون هذا بمقدور أحد، ثم إن مثل هذه التصرفات تظهر مدى تدين هذا المجتمع رغم ما فيه من علات هي في الحقيقة صنيعة الاحتلال والمنحلين من أعوانه.
أخيراً، ليس إسقاط الحقوق عن المعسرين أمرا يؤخذ على إطلاقه، حيث كثير من الناس لا يستطيعون إسقاط حقوقهم؛ ذلك أن هذه الحقوق هي مورد عيشهم، وقوت عيالهم، فإن أسقطوها جاعوا وضيعوا أهلهم، فليس من العدل أن أطالب بقالا يعتاش من شواكل تدخل عليه كل يوم أن يتنازل عنها، أو نطالب صاحب منزل قد أجره ليأكل من أجرته أن يتنازل عن هذه الأجرة؛ بل إن الله تعالى ما كلف نفساً إلا وسعها، كما هو ثابت في كتابه العزيز، وعليه فإن الرفق واجب على الجميع، وهذا هو عدل الإسلام.